هـل أدبنا العربي يصل إلى العمق ؟

هناك من يقول أن أدبنا العربي لا يتطرق إلى قضايا حساسة، وإن تطرق فلا يتناولها بطريقة جريئة تصل ‏إلى العمق، وهم يستندون في قولهم على إطلاعهم على الأدب الأوروبي والأمريكي والروسي وغيره من أدب الدول ‏المتقدمة، حيث وجدوا أن أدبهم ـ بشكل عام ـ أكثر جرأة في الطرح من الأدب العربي، وأكثر عمقا في تناوله لقضايا ‏تتعلق بصلب الحياة، وما يدور فيها من أحداث ومواقف ومبادئ، وما يعتلج في النفس البشرية من صراعات ‏وتناقضات وتباين.  فأدبهم يصل إلى عمق الأعماق في كل موضوع يتناولونه، وأدبهم لا يغفل أن أي شاردة أو ‏واردة تعتلج في النفس البشرية وتصل إلى عمق مشاعر الإنسان إلا وتناولوها، وما كل ذلك إلا ليظهروا النفس على ‏حقيقتها، وما يختلج فيها وتفكيرها ووجدانها ومشاعرها من صراعات وتناقضات وتعثر وكبوات وهي تسير مشوار ‏الحياة.  من هنا فأنت ترى أدباؤهم يتناولون ـ بشكل جريئ وموضوعي ـ قضايا حساسة مهمة تتعلق بعلاقة الرجل ‏والمرأة مثلا، وعقدة الرجل وغرور المرأة، وصراع الإنسان وهو يتأرجح بين الإلحاد والإيمان، والرسل والمعجزات، وهل ‏هي حقيقة أم من وحي الإنسان.  كما أنهم يتناولون قضايا تتعلق بالصراع بين الخير والشر، والملائكة والشيطان، ‏والحياة والموت، والشباب والشيخوخة، والضعف والقوة، والفضيلة والرذيلة، والفقر والغنى، والظلم والإستبداد وما يولده ‏من تناقضات في عقل الإنسان ووجدانه وشكه ويقينه.  هذا إلى جانب تناولهم الأمراض النفسية التي تعتري النفس، ‏والغرائز الحيوانية التي تؤدي بالإنسان الإنحراف عن جادة الصواب، وما يتبع ذلك من انفعال وصراع بين العقل ‏والعاطفة، والراحة وتأنيب الضمير، والتردد والإقبال، والإدمان على المخدرات والأمراض، وكيف يخرج منها عن ‏طريق العمل الدؤب والأمل وعدم اليأس، كانشغاله مثلا بالرسم والفن والموسيقى، والكتابة والتأليف، أو عن طريق ‏نكران الذات وتكريسها في خدمة الله، أو عن طريق عمل الخير والتطوع والمساعدة والإختراع والإبداع… الخ من ‏الأعمال التي قد تنقذ الإنسان من صراعاته وتخلصه من أمراضه ومشاكله.

وبهذا نستطيع أن نقول أن الأدب الغربي والروسي ـ وخاصة ما يتعلق بالقصة والرواية والمسرحية ـ يصل ‏إلى عمق الحياة، ويقف على كل ما يجري فيها من صراعات وتناقضات.  فهم يصلون في أدبهم إلى أعماق النفس ‏البشرية وعقلها الباطني وشعورها ولاشعورها وغيرها من القضايا التي تؤرق حياة الإنسان، ويقفون بذلك على حياته ‏وموته، وتقدمه وتأخره، وأمنه واضطرابه، وهدوءه وثورانه، وعلمه واختراعاته.  فهناك كثير من رواياتهم ومسرحياتهم ‏تناولت مثلا نوازع الجشع والطمع، والرشوة والفساد، والضلالة والهدى، والحرب والسلام، والحكم والظلم وشهوة ‏السلطان، والغش والخداع، والعنف ضد المرأة وغواية الشيطان، وعمالة الأطفال، والدعاية الكاذبة التي تهدد حياة ‏الإنسان وتطوره،.  وهناك كثير من قصصهم تناولت الشذوذ الجنسي والدعارة، والحب والإثارة، والطهر والقذارة، ‏والخيانة والعمالة، وغربة المواطن في وطنه، وازدواجية شخصيته وهو في المهجر والشتات يتأرجح بين مشاعر ‏الإنتماء لوطنه والحنين إليه وبين البقاء في المهجر والراحة فيه.  من هنا، فلا نرى قصة من قصصهم تخلو من هذه ‏الموضوعات، ولا مسرحية من مسرحياتهم لا تمثل نوازع الإنسان، ولا رواية من رواياتهم لا تتطرق إلى المشاكل التي ‏تعيق حياة الإنسان.  والأهم من هذا، فتراهم يطرحون مثل هذه القضايا بطريقة جريئة وعميقة ومؤثرة وراقية في آن، ‏ويمثلونها في أفلامهم ومسرحياتهم بما يحقق الهدف منها والمراد.  وبالتالي، فنراهم جريئين في الطرح، وجريئين في ‏العرض والتمثيل، وجريئين في تناول القضايا الحساسة التي لا تخطر على بال.  فهناك مثلا الأفلام التي تتناول ‏الصراع الذي ينتاب الفرد عندما يعاني من العقم وما يتبعه من زواج ثان وتبني أطفال، أو عندما يعاني من الأمراض ‏القاتلة كالإيدز والسرطان، وكيف يتغلب عليها ويستمر في الحياة.  هذا إلى جانب تناولهم موضوع الخيانة الزوجية ‏بطريقة تلفت الأنظار، وصراع الأجيال بين الكبار والصغار… الخ من الموضوعات الإجتماعية والنفسية المهمة؛ ‏وما هدفهم من ذلك إلا ليفكروا في الحل، ويزودوا الإنسان بطرق دفاعية تحميه وتجعله يتكيف ويتأقلم ويستمر في ‏الحياة بعزة وكرامة وكبرياء.  إنهم يحاولون من خلال هذه الموضوعات أن ينموا العقل والفضيلة والأخلاق وحب ‏العمل والبحث والإنتاج الذي يؤدي إلى تقدم الإنسان لا تأخره، ورفع معنوياته لا تحطيمه، وتغلبه على المشاكل لا ‏تعقيده.  إنهم يحثون الإنسان من خلالها أن ينهض ويبحث ويعرف ويتعلم في كل مرحلة من مراحل حياته، وكيف ‏يتغلب على مشاكله والصعوبات التي تواجهه ، وذلك حتى لا يستهجن أي أمر مهما كان، وألا يستسلم للمشاكل ‏مهما صادفه من أمراض وفقر وظلم وتسلط واستبداد وخيانة وعمالة.  من هنا، فترى معظم الناس عندهم باحثين، ‏ومعظمهم قارئين، ومعظمهم عاملين نشيطين، ومن ثم متطورين ومتقدمين ومتحكمين في العالم ومستعمرين، وترى ‏الأفلام السينمائية عندهم ما زالت عامرة، والمسرح ما زال ركنا ههما وحيويا في حياتهم الإجتماعية، وهذا كله من ‏شأنه أن يشجع روائييهم على المزيد من تأليف القصص والروايات، ويشجع واضعي المسرحيات على المزيد من ‏وضع المسرحيات والإنتاج.  فهناك علاقة قوية بين أدبهم وحياتهم الإجتماعية والنفسية بحيث لا تجد فرقا كبيرا بين ‏ما يحضَ عليه أدبهم من قيم وأخلاق وما يمارسونه على أرض الواقع من تصرف وأفعال.‏

وبالتالي، فيحق لنا نحن الكتاب أن نتساءل، أين أدبنا العربي من كل هذه الموضوعات؟ وأين هو من ‏الصراعات التي تدور في النفس البشرية وهي تخوض معترك الحياة؟ وأين هو من معالجة مشاكل الإنسان ‏وصراعاته، وحروبه ونكباته على اختلاف أنواعها؟   أظن أن أدبنا العربي ما زال مثاليا بعيدا عن الخوض في عمق ‏الحياة، وما زال يركز في جلَه على الدين والأنبياء وكل المثاليات، وما زال يطبع الناس بطابع واحد وكأن نزعاتهم ‏واحدة، وأخلاقهم واحدة، وتصرفاتهم واحدة، وأمراضهم واحدة، لا يشذ فيهم أحد عن القاعدة.  وحتى لو وجدنا بعض ‏الأدباء يتطرقون لموضوعات حساسة وخطيرة، فما زال الطرح غير جريئ، ولا هو جاد ولا موضوعي، ولا يطرح ‏أيضا بطريقة راقية تؤدي إلى حل المشاكل بطريقة غير مبتذلة، ولا يكسب قارئه طريقة تفكير إبداعية، أو اتجاهات ‏إيجابية تنعكس على شخصيته والمجتع.  ولنفرض أن هناك من أدبائنا من تناول مثل هذه الموضوعات بشكل جاد ‏وموضوعي وإيجابي، فما زلنا لا نرى أحدا يصغي إليهم من أهل السلطة وأصحاب القرار، ليأمروا بالتغيير وتوظيف ‏أفكارهم وما جادت به قرائحهم بما يخدم المجتمع، مما يذهب بأفكارهم وإبداعاتهم أدراج الرياح.‏

وعلى عكس ما يحصل في الغرب فتراهم يستفيدون من أفكار أدبائهم ويطبقونها مباشرة في حياتهم ‏وأعمالهم وهذا ما حصل عندما أخذ الشعب الفرنسي انتقادات “فكتور هيجو” وهو يطرحها في البرلمان، وعندما طبق ‏الشعب البريطاني أفكار “شكسبير” وانتقاده للفساد في عصره وفهمه للنفس البشرية ودخائلها وهو يكتب عنها أو ‏يمثلها على المسرح.  وكذلك طبق الشعب الروسي مبادئ “تولتسوي” في إيمانه بالله وحبه في البذل والعطاء ‏ومساعدة الفقراء.. ، وما كل ذلك إلا لأنهم يؤمنون بأن الأدب هو فكر الإنسان وحضارته، وبدونه لا تستطيع أي ‏أمة أن تعيش وتطور وتتقدم إلى الأمام.  وباستثناء بعض أدبائنا المصريين بالذات، كالروائي نجيب محفوظ، ‏ويوسف إدريس، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، وغيرهم من الرواة الذين تناولوا في قصصهم صورة الحياة ‏المصرية بكل إيجابياتها وسلبياتها، ووصلوا إلى أعماقها، وباستثناء الأدباء السوريين الذي أبدعوا في نقد الحياة ‏الإجتماعية كما رأينا في مسلسلات دريد لحام، وباب الحارة، وغيرها من المسلسلات والأفلام، وابستثناء بعض ‏الشذرات التي تتناثر إلينا من هنا وهناك من بقية البلدان العربية، فأنا أعتقد أن أدبنا العربي ما زال مقصرا في ‏الوصول إلى عمق الأحداث، وما زال مقصرا في طرح القضايا الحساسة التي تهم السواد الأعظم من الناس.  صحيح ‏أن فن الشعر والمقالة تناولا كثيرا من الموضوعات النفسية والمجتمعية والسياسية الحساسة بطريقة مختصرة، ولكنهما ‏لم يتمكنا لحد الآن أن يحدثا الأثر كما تحدثه القصة أو الرواية أو المسرحية في إثارتها للخيال والانفعال وتوظف ‏الفكرة ـ تمثيلا ـ على أرض الواقع بطريقة حية ناطقة.‏

‏ إن قصور أدبنا العربي برواياته ومسرحياته بالذات قد يرجع ـ من وجهة نظري ـ إلى مثاليته أكثر من ‏واقعيته، وإلى التأخر والديكتاتورية التي تسود مجتمعاته وأنظمته، فتعيق العقل عن التفكير، والإبداع والنقد بالشكل ‏الصحيح، ومن ثم قتل التفكير الناقد الذي يتحسس المشاكل ويقترح العلاج..  وقد يرجع قصوره أيضا إلى عدم ‏انطلاق أدبائنا من خلفية علم النفس وهم يطرحون قضايا الإنسان ومشكلاته.  وقد يرجع أيضا إلى عدم رواج ‏المسرح في معظم البلدان العربية، وإلى تراجع دور السينما في عرض الأفلام ذات القصص المؤثرة الهادفة، وإلى ‏ضعف البرامج التلفازية التي تركز على الربح المادي أكثر من العمل الأدبي الخلاق،  ناهيك عن عدم استقرار ‏الأوضاع السياسية.  لهذا كله، فأنا أرى أن أدبنا العربي ما زال ينقصه الشيء الكثير، وما زال مثاليا أكثر منه واقعيا، ‏وما زال غير جريئ في الطرح، وما زال هناك هوة تفصل بين موضوعاته وبين حياة الناس الإجتماعية وما ‏يمارسونه على أرض الواقع.  وبهذا، فأنا ما زلت أومن بأن الأدب الحق هو الأدب الواقعي الذي ينبثق من عمق ‏الحياة ويعتمد في خلفيته على علم النفس، ويوظف الأفكار التي يأتي بها ويطبقها على أرض الواقع بشكل ينعكس ‏على حياة الناس وأخلاقهم وتربيتهم، لا الأدب المثالي الذي لا يخرج عن الثوابت والتابوهات، ولا يتعدى الحدود ‏والسدود والمعيقات، فيتسمَر في مكانه على نسق واحد عبر الزمان والأجيال.‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.