وردةٌ في الزقاق

في صباح هدأ فيه كل شيء إلا من حبات الندى التي تتكور فوق الوردة، وزقزقة عصفورة على سلك الكهرباء الرماديّ، اليوم تبدو ألوان الأشياء نقية، وحقيقية، نجلس على عتبة الدار، تتقاطع نظراتنا في نصف نظرة، تتوقف نصف النظرة عند مطبات الفكرة، فتعود وتتيه في الأرجاء، يغزونا ندم طارئ، فنتبادل الأعمار والأزمان، أصير أنا عجوز في السبعين، وهي طفلة في السابعة.

أخرج باكراً لألتقي بـ سمر عند رأس زقاقنا الطويل، ندخلُ زقاقين لا يشبهان زقاقنا أبداً، نخرجُ منهما خمسة، أنا وسمر ولمى وديمة وعلا، ندخل الزقاق المعتم، نمسك أيادي بعضنا ونركض، نصل فسحة النور -ساحةٌ صغيرة يلعب بها الأولاد وقت العصر-، وهناك نلتقي بـ ياسمينة السمينة، لندخلَ أضيقَ زقاقٍ في المخيم، فنضحك كل يوم وكأننا لم نضحكْ من قبل، ياسمينة تجرُّ نفسها وحقيبتها بصعوبة، وعليها أن تُلصق ظهرها في حوائط البيوت لتمرّ عبر الزقاق، نضحكُ، تغضبْ، نضحكُ أكثرَ وأكثرْ، تتراكم الدموع في زوايا العينين البنيتين، نندمْ، نخبيء ضحكتنا، نلفُّ رؤوسنا نحو خط الشمس الوحيد الذي اخترق الزقاق، ونفرط ضحكاتنا حَبّةً حبة، كثمرة رمانٍ ناضجة، ها نحنُ أخيراً وصلنا شارع المدارس، هنا نرى جبال المدينة واضحةً، وهنا فقط نشعرُ أنَّ السماء أكبر من الشمس بكثير.

–   جدتي.. هل كان عليّ أن أسقى الورد صباح مساء

–  لا، فالماء والهواء هنا كالعلقمّ، ماء البحر سحريٌّ وينفعُ الورد.

–  لكنّ البحر بعيد، وعودُ الورد طريّ

صمتت جدتي، وتربّعت على الأرض، وبقيتُ وحدي على عتبة الدار، ربما أزعجتها، وزحفت بها إلى ذاكرةٍ ملغومةٍ.

قُرِعَ جرس المدرسة، ترتبنا في طوابيرَ طويلة، تَلوْنَا فاتحة الكتاب، وعلتْ أصواتنا بالنشيد الوطنيّ (فدااااائي..فداااااائي، فدائي يا أرضي يا أرض الجدود….)، قرأت طالبةٌ في الصف الثالث موضوعاً عن يوم الشجرة، وطلبت المعلمة من صفنا تنظيف ساحة المدرسة، فطلبتُ منها أن نسقيَ نباتات المدرسة، فانشرح وجه المعملة، وقلّما ينشرح.

ومن يومها صرتُ أهمسُ لنباتات مدرستنا، وللورود التي زرعتها الشابة الأجنبية في الشهر الماضي، عندما زارت المخيم والمدرسة، وحتّى تلك النباتات البرية التي نمت في الجدار، صرتُ أهمس لها بأفكارٍ أزهرت في رأسي، ومدّت جذورها في أعماقي، وتبرعمت مع أحلامي، فصرتُ أشمُّ عطرها وأراها في منامي.

“ندى، الوردُ مثلُ البشر، يحتاج أرضاً دافئةً يغفو في حضنها”

تكلمت جدتي بعد صمتٍ عميق، فلم أُبادلها سوى نظرةً بريئةً، وابتسامة بلوريّةً، فتشجعت للكلام

“كنتُ أحبُّ حديقة بيتنا كثيراً، أجلس فيها صباح مساء، أحدّثُ النرجس أسراري، وأحنو على الزنبق لينام، وأنثر الياسمين على فستاني، كانت أمي تصرخ عليّ، لأني أذهب كل يوم للبحر وأعبئ علبتي الحمراء ماء، فأضحك أنا ضحكةً ماكرة، وأقول: ماءُ البحر سحريٌّ يا أمي، وأحلمُ بحديقة ورد عند البحر، لكني لا أستطيع أن أسحب البحر هنا، ولا أن أقلع الورد وأنقله هناك، فتضحكُ من أعماقها، وتبتعد….ولكـن “

نثرتُ بذور فكرتي على صديقاتي، فضحكنْ واستهزئن، وضحكت ياسمينة أيضاً، وعندما حدثت أمي قالت بسرعة: “ادرسي، وتوقفي عن أحلام اليقظة، المخيم سيبقى على حاله، وسيزداد سوءاً يوماً بعد يوم”.

لمْ أنم تلك الليلة، تمنيتُ لو أن فكرتي تتفرّع  فتملأ رؤوس كل أهل المخيم، بقيتُ على نافذتي الصغيرة، أتلحفُ بسمائنا الضيقة، جدتي تحبُّ يافا والبحر والورد، لكنّ يافا بعيدة، والبحر أبعد، وفي المدينة المجاورة ورد.

مع تثاؤب الفجر، أيقظتُ جدتي لتصلي ولأحدثها ببناتِ أفكاري، برقتْ عيناها كنجمةٍ وحيدةٍ، وابتسمتْ كطفلةٍ شقيّة، فقالت:

“ندى، ستطفو رائحة الياسمين، والريحان، والورد، وووو…. على رائحة مياه المجاري الراكدة في أزقة المخيم”

–  جدتي، وماذا حصل؟

–  في ليلةٍ انفقأت فيها النجوم، وغرق القمرُ في دوامة العتمة، شبّت النار في بيتنا والبيوت المجاورة، كان القصف للمدينة كلها، نَجونَا بأنفسنا وبما علينا من ثياب، وقفنا لساعاتٍ وأجفاننا محدقة في البيوت المحترقة، أمي تنوح، وأبي يضربُ رأسه بكفيه، وأنا أعدُّ الزهرات زهرةً زهرة، وهي تحترق واحدةً واحدة، وكأنها تودعني للأبد.

 لم يكن ماء البحر سحريُّ يا أمي، ولم تكن أرض يافا دافئة يا قلبي، وكانت القذيفة بلا أنف يشم الرائحة العطرة فيتجنبها، وكما ترين رمانا البحر في المخيم أصدافاً فارغة.

مع زقزقة العصافير بدأنا العمل ، وضعنا أحواض ورد على جانبيّ كل زقاق، وأحواضاً أخرى على النوافذ، تتدلى منها نباتات وورود، فتمنح الجدران ألواناً جميلة، زرعنا كروم عنب على رأس بعض الأزقة، لتمتد وتصير عريشة العنب سقفاً  لها، أما الأزقة الضيقة، فزرعنا فيها نباتات متسلقة، والأشجار زرعناها في شارع المدارس، وفي فسحة النور التي يلعب بها الأولاد.

لاحظت مديرة المدرسة ما يحدثً في المخيم، حيثُ أنها كانت من المدينة، فأخبرت مؤسسة لتساعدنا وتدعم فكرتنا، وفعلاً ما هي إلا أيام حتى صارت أسطح بيوت المخيم حدائق خضراء مبهجة، وعلى باب المخيم زرعنا أشجار زيتون، وقمنا بطلاء واجهة المخيم المقابلة للشارع بألوان ربيعية متناسقة، فصرنا نلحظُ الناس يبتسمون، بعدما كنا نراهم يعبسون وتتقطّب حواجبهم إذا ما مروا بالمخيم.

جاء الشتاء كريماً هذا العام، والغيمات كبيرة على الجبل البعيد، وعندما تصلُ المخيم تَصغُرُ؛ ليتسعها الزقاق  فتلقي ما في جوفها على نباتات الزقاق، وعلى السطوح التي تفتح قلبها للسماء.

فأقبل الربيع ربيعاً حقّاً في المخيم، ربيعٌ يُلمس باليدين، يشق القلب فيتورّد، تصحو الفرحةً فلا تنام، تزقزق العصافير فلا تسكت، تتماوج الأوراقُ فلا تسقط، صار المخيم كتلةً نابضةً بالحياة.

– جدتي، كيف يموت الورد دون أن يذبل؟

 – تماماً كما احترق يوماً دون أن يصرخ.

–  مسكينٌ الورد، نحن نصرخ، ونبكي، وننزف، وهو يموت صامتاً واقفاً مغلفاً بهدوئه وجماله.

في ليلةٍ داكنةٍ كانت السماء عقيمة فلم تلدِ النجمات، وابتلعت القمر، كانت الطائرات وحدها تغزو فضاء المخيم، وهم وحدهم في الساحات الواسعة يصرخون بالناس لإخلاء المخيم، فزع الناس، وطار الحمام، وجفل الورد، وارتفع الشجر، ومنذ تلك الليلة نام المخيم ملوناً، مزهوّاً، وفتح عينيه بعدها أسوداً رمادياً، بيوتاً، وأنصاف بيوت، بتلات الورد متناثرة كحبات لؤلؤ، الأغصان مشنوقة، وجذوع الشجر متفحمة، وحدها رائحة الركام والقنابل والمياه الراكدة تطفو في فضاء المخيم.

– ندى، لم يكن بإمكاننا فِعْلَ شيء لا اليوم ولا بالأمس.

– لكني صرختُ، وبكيتُ ودعستُ على قدم الضابط، وتوسلتُ إليه أن يتوقف القصف خمس دقائق فقط، لأقطف الورد، وأعود إلى يافا.

بقلم: منار برهم

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.