يقال أن الإبداع يولد من رحم الألم، فالصعوبات تولِّد حافزًا للإنسان لتجاوزها، ولعلَّ ذلك مرتبط بخصيصة وضعها الله في الإنسان جعلت حياته في كبد. ويأتي الإنجاز كعلامة دالّة على تجاوز تلك العثرات والإنطلاق في رحابة الحياة، فتصبح محن العيش منحًا يستلذ بها الإنسان.
تسير في الطابق الثاني لكلية العلوم لتصل إلى مكتبه في قسم الفيزياء في جامعة النجاح الوطنية فترى رجلًا في أوائل الستينات يجلس محدقًا في حاسوبه الشخصي. لا يظهر أثر لتلك السنين على احتفائه بمن يقدِم إليه طالبًا كان أو زائرًا. يرحب ببشاشة بمن يسلم عليه، ويصرُّ على احترام من يتعامل معه مهما كان فارق العمر. وهذا الفعل ليس مستغربًا على من عاش في بيئة فقيرة عاشت ضيق الحال. وما زاده علمه ودرجاته العلميّة إلّا تواضعًا.
فوضى مكتبه والأوراق المتناثرة عن يمينه وشماله والممتلئة برموز لا يفهمها إلّا من هو عالمًا بها تشهد على سنين في الدراسة والتجربة لم تذهب عبثًا، زوايا المكتب جميعها تشير بأن ثمة رجل شغفه بالفيزياء لن ينتهي.
الدكتور منير عبده (63 عامًا) ولد في بلدة عنبتا التابعة لمحافظة طولكرم عام 1953 في أسرة كبيرة عدد أفرادها أحد عشر شخصًا من بينهم سبعة أبناء من الذكور أكبرهم يدعى حسام ثم نسيم، عصام، سمير، أسامة وتيسير، وأربع من الإناث وهنَّ شكرية، صبحية، سميرة ووسام. عاشوا جميعًا في بيت متواضع مكون من غرفتين فقط. عمل الوالد رئيسًا لجمعية زراعية لبعض الوقت بعد عودته من السعودية، كان عمله يغطي جزءًا من الإحتياجات اليومية للعائلة التي اضطرت مثل كثير من عائلات البلدة إلى تأمين ما تحتاجه عن طريق عمل ريفي شهير في تلك المنطقة وهو”كسر اللوز”. ذلك العمل الشاق الذي دأب عليه كل افراد العائلة أمّن إلى توفير أكثر من 30% من ميزانية البيت بعد مرحلة حرب حزيران عام 1967.
عدّل جلسته، تناول حلوى بطعم القهوة كان قد قدمها لنا مسبقًا، لربما مرارة الطعم ذكرته بمرارة تجربة هجرة عام 1967، فبدأ حديثه: “دخل جنود الاحتلال إلى بلدتنا التي شهدت اقتحاماتهم المتكررة، طالب قائد الجيش الأهالي في جنوب القرية بالمغادرة قسرًا. فبدأت السيارات والشاحنات الصغيرة المهترئة بحمل الرجال والنساء، وشيوخٍ إنحناءات ظهورهم أكبر من كيان الإحتلال وأطفالٍ صغار لم تشفع لهم طفولتهم صعوبة الموقف”.
ويتابع، “لا أعلم إن كان بإمكاني تسمية هذا بحسن الحظ، فكنتُ وعائلتي نقطن شرق البلدة وقبل وصول قوات الإحتلال بيوم جاءت أوامر من قائد الجيش الأعلى بوقف الترحيل”.
الإبتسامة الخجولة التي انفرجت من شفتيه عند استذكاره للموقف لم تدم طويلًا، أدار كرسيه لمقابلة نافذة مكتبه وأطلق تنهيدة طويلة تثير في النفس الفضول لمعرفة ما ورائها، سرعان ما تحول هذا الفضول إلى سؤالٍ أربك تنهيدته، فأجاب: “شيء مؤسف أنك لن تستطيع رؤية أشخاص عزيزين على قلبك مرةً أُخرى، عمتي، وخالتي وخالي هجّروا جميعهم قسرًا قبل قرار الوقف ولم أستطع رؤيتهم بعد ذلك اليوم”.
بعد قدوم الاحتلال الاسرائيلي طالت انتهاكاته عائلة الدكتور منير كأي عائلة فلسطينية في ذلك الوقت، اعتقل شقيقه سمير لعام واحد، حيث كان يقع على عاتقه مسؤولية محل الخضار والدجاج الذي كانت تملكه العائلة. أدى الإعتقال إلى انتقال ذلك الدور إلى الدكتور منير الذي كان لا يزال طالبًا في المرحلة الثانوية؛ وهو ما أثّر على تحصيله الدراسي. أُفرج لاحقًا عن سمير واضطر لتأديه امتحان الثانوية العامة عام1972 مع شقيقه منير الذي يصغره بعام، يستذكر تلك المرحلة قائلًا: “لم أكن مهتمًا في التحصيل العلمي والدراسيّ؛ لإعتقادي بديهيًا أنَّ عائلتي ستقوم بتدريس شقيقي سمير كونه يكبرني بعام ولن أحصل على تلك الفرصة بسبب دنو وضع عائلتي الاقتصادي الذي لا يسمح بتكفل نفقات تعليم أكثر من فرد في العائلة. لكن شاءت الأقدار برسوب شقيقي سمير في الثانوية ونجاحي بمعدل منخفض.”
عكف الدكتور منير على توفير المال للسفر من أجل استكمال الدراسة على نفقته الشخصية، فوازن بتقسيم دخله من العمل بين مشروعه الدراسي والعائلة، كونه المعيل الوحيد مع والده في ذلك الوقت.
معايشته للنكسة الفلسطينية، وحمل المسؤولية في عمرٍ مبكّر، والوضع المالي السيء وعدد أفراد العائلة كبير، عقبات في حياة الدكتور منير لم يكن باستطاعته تجاوزها لولا تبدّل الأقدار.
إلى الهند.. حيث رُسمت ملامح الطريق
بسبب ندرة الجامعات في الضفة الغربية في ذلك الوقت، حصل الدكتور منير على قبول لدراسة بكالوريوس الفيزياء والرياضيات والكيمياء في جامعة ميسور الهندية عام 1974؛ ولحسن حظه كان المبلغ الذي وفّره خلال عامين من العمل يكفي للسفر والمصروف الدراسي في تلك البلاد الآسيوية. عاد إلى فلسطين للعمل مجددًا؛ حتى يستطيع توفير ما يكفيه لأعوام جديدة في مسيرته التعليمية المقبلة. وبالفعل تمكن من ذلك، فاستطاع أن يوفّر مصروفه لعام ونصف من العمل في محال لبيع الجملة في الداخل الفلسطيني المحتل، ولكن ذلك المال كان يوفّر له الحد الأدنى من الحياة الكريمة مقارنةً بزملائه الغير فلسطينيين.
”عشتُ بعض الصعوبات التي لا بد من مواجهتها في الغربة؛ كنتُ ألجأ اضطرارًا للمشي على دراجتي الهوائية يوميًا حوالي 20 كم حتى أصل إلى الجامعة. لم يكن أمامي سوى الهدف الذي أتيت إلى الهند من أجله، وكيف سأستطيع توفير نفقاتي خلال سنين دراستي دون أن يزيد ذلك عبئًا على عائلتي”.
تتأرجح الحياة بالإنسان ككفتيّ ميزان، تعبس له تارةً وتضحك تارةً أخرى، ولعلّ بعد عبوسها الطويل في وجه الدكتور منير قررت أن تبتسم له؛ ليكمل دراسة ماجستير الفيزياء بدعمٍ من شقيقه الأكبر سمير الذي وفّر له كل ما يحتاجه للمضي قدمًا في علمه ودراسته.
يقول منير، “لشدة ولعي بالفيزياء اخترته تخصصًا دونًا عن غيره؛ لإكمال درجة الماجستير به، فلم أكن أرى نفسي سوى خبير يتقن التحكم بالخواص الفيزيائية للمواد الكيميائية التي يتم تحضيرها”.
انسجامٌ لطيفٌ بين الديانات تجسّد في تجربته
تأقلّم مع البيئة الهندية سريعًا، بالرغم من الإختلاف في اللغة والدين مع البيئة المحيطة، فاسترسل في حديثه: “الشعب الهندي شعب طيب جدًا. يحتاج المغترب إلى طريقة صحيحة في التعامل معه، خلال سنوات دراستي هناك كنتُ أحاول نقل صورة جيدة عن المسلمين عن طريق نسج علاقات اجتماعية متميزة، ذلك بسبب عداء الهندوس الشديد للمسلمين”.
وتابع، “حرصتُ في المناسبات الإسلامية على توزيع الحلوى والهدايا على الأصدقاء من الديانة الهندوسية معرِفًا إياهم بأسماء الأعياد الإسلامية والعادات المتعارفة فيها. ولم يخلُ الأمر من تهنئتهم في مناسباتهم أيضًا، مما وفّر لي حياة مستقرة بعيدًا عن حالة التعصب الديني الحادّ في الهند”.
لم يخلُ الأمر من دور الحكومة الهندية في تقديم الكثير من المنح والمساعدات للجالية الفلسطينية في الهند، انعكس ذلك إيجابًا على الدكتور منير الذي استفاد من هذه المنح. كما عمل على استثمار العلاقات الجيدة التي كونّها في مساعدة الطلاب الفلسطينين بحكم عضويته في الإتحاد العام الطلاب الفلسطينيين في الهند.
لجامعة ميسور النصيب الأكبر في قلب الدكتور منير؛ لإختيارها مجددًا للدراسة والتقدم لدرجة الدكتوراة في موضوع “السوائل البلورية”، وفِّق في اختيار البحث؛ لقلة التطبيقات في هذا المجال رغم أهميته. مما أهّله للحصول على منح من مركز الفيزياء النظريّة في إيطاليا على حساب الحكومة الهندية بتغطية تذاكر السفر والإقامة.
4 سنوات ونصف في دراسة الدكتوراة أُنهيت بتقدير جيد جدًا، عاد بعدها إلى أرض الوطن؛ ليحصل في تاريخ 15/3/1986 على فرصة للعمل محاضرًا في قسم الفيزياء في جامعة النجاح بصفة أستاذ مساعد ثم حصل لاحقًا في عام 1997 على درجة أستاذ مشارك حتى الآن.
”عند عودتي إلى فلسطين لم أستطع الحصول على فرصة العمل في الجامعة بسبب الأوضاع السياسية في ذلك الوقت.
ترأس قسم الفيزياء في جامعة النجاح الوطنية في الفترة ما بين عامي 1998-1999، وشغل منصب عضو في لجان قسم الفيزياء لسنوات مختلفة، ودأب أيضًا على كتابة مواد دراسية معتمدة من عمادة كلية العلوم إلى الآن، فكتبَ دوسية مختبر فيزياء عامة 2 ودوسية مختبر فيزياء عامة لطلبة الزراعة.
بينما تتسلل إلى الطابق الخامس في كلية العلوم حيث المختبرات العلمية الخاصة في قسم الفيزياء، ترى الدكتور منير بإحدى محاضراته المخبريّة، مرتديًا الزي الأبيض، يمسك بإحدى المواد التي تم تحضيرها ويتفحصها جيدًا، ولا أحد يفهم تعبيرات وجهه التي يكون خلفها ألآف الأفكار في عقله سوى من هو في مستواه العلمي.
”أقوم بتدريس العدد من المساقات العملية منذ تعييني، ويحتاج الطلبة مثل هذه التجارب؛ لتساعدهم على فهم الظواهر من حولهم، لا شك أنه يقع على عاتقي مسؤولية الطلبة جميعهم عند وجودهم في المختبرات وذلك لحساسية وخطورة بعض المواد التي تحتاج أن تعاملها بنعومة وحذرٍ شديد؛ لتقيك شرّها”.
المربّي والمعلّم
منير الدكتور والمعلّم لم يختلف كثيرًا عن منير الأب؛ فالمحاضر أو الأستاذ الناجح هو الذي يبني مع طلبته علاقة قائمة على الإحترام والثقة المتبادلة، وهذا ما حرص على غرسه بأولاده منذ نعومة أظافرهم. جهاد، مراد، فنن، نور ورند، خمسة أبناء للدكتور منير كأي عائلة فلسطينية تنجب ضمن المعدل الطبيعي للمواليد.
لم تثنه انشغالاته الدائمة عن إعطاء كلًا من أبنائه حقه الطبيعي من الأبوّة؛ فوصف نفسه بالصديق الأب لأولاده، فيقول: “المشاركة أساس نجاح أسرتي، بدءًا من القرارات المصيرية للأسرة انتهاءً بالقرارات اليومية المعتادة. ولم أفرِّق بين أبنائي يومًا”.
ويتابع مبتسمًا، “زوجتي وبناتي يثقن في ذوقي كثيرًا، ويأخذنه بعين الإعتبار دائمًا. فلي دوري الأساسي في الأعمال المنزلية ولم أشعر يومًا أن هذا يقلل من رجولتي أو مكانتي كما النظرة السائدة في المجتمع الفلسطيني، بل أنني أحيانًا أفضل إنهاء الأعمال بيديّ؛ لإتقانه أكثر من أي ربّة منزل، كما أنني أعتني بحديقة المنزل كثيرًا لأن زوجتي تحب الأزهار”.
مال برأسه قليلًا، وعدّل قميصه بني اللون وابتسم مجددًا ابتسامة مليئة بالحنين لابنته الكبرى فنن؛ كونها تزوجت وذهبت برفقة زوجها إلى السعوديّة لفترة مؤقتة لتبتعد عن عش أسرتها المتماسك. فاستذكر أحد المواقف، خلال تحضيرها لدخولها سنتها الأولى في الجامعة، فيقول: “كنتُ ورفقة ابنتي لتشتري جاكيت شتوي من أحد المحال في مدينة نابلس، وكأي فتاة في مقتبل العمر أُعجبت بالألوان الصارخة، فوقعنا أمام خيارين أحدهما اللون الأحمر الذي تحب، فسألتني،
”شو رأيك بابا؟”، فأخذت أتحسس قماشة كلًا من الجاكيتيين وأشرت لها بإختيار ذي اللون الغامق؛ لأن جودته أفضل، أخذته ولم تتردد لحظة”.
أمّا عن جهاد، أكبر أبناؤه ويعمل مهندسًا باتحاد المقاولين العرب، فتراه يتحدث عنه بفخرٍ لم يسبق له مثيل؛ فهو سعيد لما وصل عليه أولاده إلى الآن بتربيتهم الحسنة التي يشهد لها جميع من عرفهم.
”جهاد كان له نصيب الأسد من قسوتي وصرامتي كونه ذكر و أول أبنائي”.
فاستذكر له موقفًا خلال سنين الدراسة في جامعة النجاح الوطنية عندما قرر جهاد أخذ سكن في نابلس برفقة زملائه في الجامعة، فقال: “في البداية رفضتُ قطعيًا فكرة السكن في مدينة نابلس لسببين، الأول بسبب الأحداث السياسية الغير مستقرة في ذلك الوقت في عام 2006 وخوفي عليه من التأثر في حماس الشباب الزائد، أما الثاني فكان بسبب وجود سيارتي الخاصة فالمواصلات له متوفرة ذهابًا وإيابًا”.
ويتابع، “لم أعتد أن أمنع أبنائي من فعل شيءٍ ما إلّا عن قناعة ورغبة منهم، فما كان مني سوى السماح له بتجربة العيش في نابلس. بدأ أسبوع جديد وكان أحد مساقات الفصل يأخذها لديّ في الساعة الثامنة صباحًا، لم أعهد له أن يتأخر عن المحاضرة دقيقةٍ واحدة كوني والده في أول الأمر وآخره فهو يحترم ذلك، ومجيئنا سويًا إلى الجامعة بشكل يومي. في ذلك اليوم تأخر عن المحاضرة لمدة دقيقتين؛ فخرجت هاتفته على جهازه المحمول ليجيب بأنه في الطريق قادمًا. وصل المحاضرة متأخرًا عشرُ دقائق، بعد انتهاء المحاضرة أتى يقول لي أنه يريد أن يتكلم معي، فقلتُ له أن ينصرف، وهو يعلم، عند قولي لهذه الكلمة فإنني أكون في قمة غضبي”.
ويضيف، “وصلنا إلى المنزل وطلبته لنتحدث عن ما حصل؛ فذهبنا إلى غرفة أخرى من غرف المنزل لأنني اعتدت إعطاء كل فرد في أسرتي خصوصية بالتكلم لعدم شعوره بالحرج أمام البقية؛ لأتفاجئ بأنه يريد أن يخبرني بأنه لم يعد يرغب بالعيش في نابلس لتقصيره في علاماته مما اضطره إلى تحويل تخصصه”.
كأي والدٍ يحب أن يرى تعبه قد بدأ يُثمر في أبنائه أراد الدكتور منير إيصال أولاده إلى بر الأمان في الحياة لإحساسه بالمسؤولية تجاههم وأن سمعة الإنسان هي رصيده الوحيد في الدنيا.
فأنهى نجله البكر جهاد هندسة الكهرباء في جامعة النجاح الوطنية، أما مراد فأنهى دراسة الهندسة المدنية ويعمل في شركة نوكيا للإتصالات وشقيقتهم الكبرى فنن أنهت تخصص الأحياء بيوتكنولوجي وتعمل في معهد البحوث الزراعية في محافظة قباطية في مدينة جنين، وأوسطهم نور، أما أصغرهم رند.
”من شبَّ على شيء شابَ عليه”
مثلما تزرع تحصد، هكذا بدأ قوله الدكتور منير عندما بدأ الحديث عن والدته التي كانت من أهم الأحداث في يومه، فيقول: “علاقتي مع والدتي كانت مميزة جدًا، كل يوم من أيام الأسبوع كانت عادة لي بعد أن أوصل أبنائي وزوجتي إلى العمل صباحًا، أن أذهب لمنزل أمي التي تعيش به بمفردها لنشرب القهوة سويًا-رغم أنني لا أحبها- لكن يصبح مذاقها مختلفًا وأحبها لأجل أن أجلس مع أمي يوميًا ونتحدث. وإذا تأخرت قليلًا بعد الساعة السابعة والنصف تخرج إلى الشارع؛ لتطلب من أحد الجيران أن يكلمني على هاتفي؛ لتتحدث معي”.
ويتابع، “هناك بعض الأكلات الشعبية القديمة التي تحبها مثل “رقاقة وعدس”، زوجتي أم جهاد هي الوحيدة من بين نساء أخي تستطيع تحضيرها بشكل جيد؛ لذلك كنت أُحضر لها كميات لا بأس بها بعد جولة قصيرة على كبار السن من جيراننا في الحي وعائلات إخوتي كذلك؛ ليتذوقوها”.
تمارس الحياة أنانيتها كالمعتاد بسرقة أعز ما قد يملك الإنسان، فتوفى الله والدة الدكتور منير في تاريخ 21/5/2016 بعد كسرٍ في الحوض أصابها بجلطة في المعدة لم يدرِ بها الأطباء ولم تمهلها طويلًا.
وضع يديه على ركبتيه مثل شخصٍ كان يركض لمسافةٍ طويلة وأراد أن يستريح، مرارة التذكّر كانت جلية جدًا في ملامح وجهه التي تخط التجاعيد طريقًا شاقًا عليها، تنّهد، أسند ظهره على الكرسي الحديدي الذي فضّل أن يجلس عليه؛ ليكن متساويًا معي، بدلًا من أن يجلس على كرسيه المخصص خلف مكتبه، وقال: “وفاة أمي ترك أثر وفراغ كبير في حياتي، صعب على الإنسان أن يعتاد على شيء فيفقده فجأة دون سابق إنذار. وخصوصًا أنها أم..”
ترك الدكتور منير حرية الإختيار كيف يكون نهاية الحديث عن فقد الأم ليبهت الحديث قليلًا ببرودة كسرها مباشرةً بالحديث عن والده.
استرسل بحديثه قائلًا: “والدي كان أقرب شخص على قلبي بعد أمي، العلاقة بيني وبين أبنائي الآن تشبه إلى حدٍ كبير الذي كان بيني وبين والدي، كان صديقي ومعلمي قبل أن يمارس سلطة الأبوّة عليّ وعلى أشقائي”.
وتابع، “في أيامه الأخيرة كنتُ رفيق لياليه في تمكّن التعب والمرض من جسده حتى توفي بتاريخ 22/6/2004، في يوم وفاته ذهبت إلى أحد زوايا المنزل وبكيت، لتأتِ شقيقتي الأكبر باستغرابٍ على وجهها من بكائي، وقالت لي لما تبكي وأنت أكثرنا برًا بوالدي حتى في أيامه الأخيرة، فأجبتها بأنه والدي ومن يخسر أباه فلا سندٌ له، وتلك كانت المرة الأولى التي أبكي فيها على فراق أحد”.
أشار الدكتور منير في حديثه عن علاقته بوالديه وعائلته أنه زرع في أبنائه ثقافة الإحترام للعادات والتقاليد المتوارثة قديمًا بين الناس، فكان يخصص يومٌ كامل بشكل دوري لأحد أبنائه؛ لرعاية ومجالسة جدهم وجدتهم وتسليتهم بالحديث حتى لو كانت تلك الأحاديث متكررة؛ لحرصه على عدم شعور والديه بالوحدة والتهميش. كما اعتاد على تعويدهم بتقبيل يد كبار السن من منطلق الإحترام ليس إلّا، فاستذكر موقفًا طريفًا لأوسط أبنائه نور وهي صغيرة بالسن.
ضحك كثيرًا وهو يستذكر براءة طفلته نو، فقال: “عندما كانت نور تقبّل يد جدها كان يقول لها الله يرضى عليكِ، في أحد الأيام أحضرتها معي إلى الجامعة فأحد زملائي من الدكاترة قبّل يدها فبادرته بالقول الله يرضى عليك لاعتقادها بأن هذا عرف وواجب بعد تقبيل اليد”.
معادلة فيزيائية وكيميائية صعبة!
كما علاقاته الجيّدة في الهند فليس غريب على شخص إجتماعيٌ بطبعه أن يكوّن صداقات وعلاقات جيّدة في مكان عمله الحالي في الجامعة أيضًا، من مكتبه بالفيزياء إلى مكتب الدكتور إسماعيل ورّاد في الكيمياء في الطابق ذاته في كلية العلوم يتفاعلان بانسجامٍ تام في العمل والصداقة.
”هو قصير وأنا طويل والناس بتضحك علينا”، هكذا بدأ الدكتور إسماعيل ورّاد بخفة ظل لوصف علاقته مع الدكتور منير عبده. فقال: “الدكتور منير شخص رائع جدًا، من الأشخاص القلائل الذين يتميزون بتواضع رغم مكانتهم بين الناس، مرح، خدوم وبسيط فلا تشعر بأنك غريبٌ في تعاملك معه للمرة الأولى”.
ويتابع، “أذكر في وجودنا في الهند بالتحديد في الرحلة الأخيرة؛ لعمل أبحاث، كان يصر للبقاء معنا في المختبر حتى الساعة الرابعة فجرًا ولا يقبل العودة إلى السكن بينما نحن مستيقظون للعمل، كنت ألح عليه للذهاب؛ لسنه الكبير وحاجة جسده للراحة. كما أن وجوده معنا في الهند ساعدنا كثيرًا لأنه يتقن اللغة الكاندية والإنجليزية فكان يتعامل بسلاسة مع أهل البلاد هناك”.
ويضيف، “قمنا بنشر العديد من الأبحاث المحكّمة والقوية في مجلات عديدة وذلك بسبب سفرنا سويًا إلى الهند وعلاقات الدكتور منير الجيّدة هناك، كنا نحصل على أي شيء نريده لأبحاثنا بشكل شبه مجاني، واستخدام الأجهزة مهما كانت تكلفتها وذلك لندرة وجود العديد منها في الوطن العربي. بالإضافة أن تكلفتنا المادية لقياس عينة أي بحث كانت تساوي “صفر” في الهند، بينما في أوروبا تكلف حوالي 1000 دولار وفي الأردن 300 دينار”.
ويتابع، “آخر بحث محكّم تم نشره قبل حوالي أسبوع واحد فقط، والمجموع الكلي للأبحاث العلمية التي جمعتنا في هذا العام تساوي ثمانية أبحاث محكّمة، أما في العام الماضي كانت 11 بحث علمي، ومن المتوقع إذا بقي التعاون بيننا وبين الهند أن يتم نشر عالأقل 5 أبحاث علمية محكّمة مع الدكتور منير. وخلال الشهر القادم سيكون لنا زيارة إلى الهند”.
الرحلة بدأت، ودرجات علمية لا تقف عند حد
بعد أن كان حلم الدراسة بعيدًا عن ناظري الدكتور منير عبده أصبح الآن طريقٌ للعيش لا يملّ، بكالوريوس، ماجستير ودكتوراة جميعها درجاتٍ علميّة ليس سهلٌ على الإنسان الحصول عليها إذ لم يجتهد ويمنح سني عمره لمجهود الدراسة التي لا تقف عند حد. بيدَ أن طاقة وشغف الدكتور منير لا تكل فهو الآن في طريقه إلى درجة البروفيسور في الفيزياء.
”بعد رحلتي الطويلة مع الفيزياء، لم أستطع التوقف إلى هذا الحد، فالآن بدأت رحلتي مرة أخرى مع درجة علمية جديدة وهي البروفيسور، وقررتُ أن تكون في جامعة ميسور التي أدين لها الكثير”.
وتابع، “رسالتي في درجة البروفيسور ستكون في ذات سياق رسالة الماجستير لكن بشكلٍ متعمّق ودقيق أكثر، أي سأدرس تركيب البلورات وخصائصها الفيزيائية لقلة الدراسة والعمل في هذا المجال”.
تنهيدة طويلة من رجلٌ ستيني كفيلة أن تصف لك تعب السنين التي مرَّ بها، فلا وصولٌ دون لعق مرارة التجربة ومكابدة مشقة الحياة، لكن من يصبر ينال ويتذوق حلاوة النجاح في فمه. ويسطر لنا الدكتور منير مثالًا رائعًا يُحتذى به في طاقاتٍ لا تنتهي وجهودٍ غضّة كغصنٍ لا يزال أخضر رغم تتابع الفصول عليه.
إعداد: هالة أبوعيشة، أسماء باسم
إشراف: أ.أيمن المصري/ قسم الصحافة المكتوبة والإلكترونية