منير عبده.. من ضنك الحياة إلى قسم الفيزياء في جامعة النجاح

يقال أن الإبداع يولد من رحم الألم، فالصعوبات تولِّد حافزًا للإنسان لتجاوزها، ولعلَّ ذلك مرتبط ‏بخصيصة وضعها الله في الإنسان جعلت حياته في كبد. ويأتي الإنجاز كعلامة دالّة على تجاوز ‏تلك العثرات والإنطلاق في رحابة الحياة، فتصبح محن العيش منحًا يستلذ بها الإنسان. ‏

تسير في الطابق الثاني لكلية العلوم لتصل إلى مكتبه في قسم الفيزياء في جامعة النجاح الوطنية ‏فترى رجلًا في أوائل الستينات يجلس محدقًا في حاسوبه الشخصي. لا يظهر أثر لتلك السنين ‏على احتفائه بمن يقدِم إليه طالبًا كان أو زائرًا. يرحب ببشاشة بمن يسلم عليه، ويصرُّ على احترام ‏من يتعامل معه مهما كان فارق العمر. وهذا الفعل ليس مستغربًا على من عاش في بيئة فقيرة ‏عاشت ضيق الحال. وما زاده علمه ودرجاته العلميّة إلّا تواضعًا. ‏

فوضى مكتبه والأوراق المتناثرة عن يمينه وشماله والممتلئة برموز لا يفهمها إلّا من هو عالمًا بها ‏تشهد على سنين في الدراسة والتجربة لم تذهب عبثًا، زوايا المكتب جميعها تشير بأن ثمة رجل ‏شغفه بالفيزياء لن ينتهي.‏

الدكتور منير عبده (63 عامًا) ولد في بلدة عنبتا التابعة لمحافظة طولكرم عام 1953 في أسرة ‏كبيرة عدد أفرادها أحد عشر شخصًا من بينهم سبعة أبناء من الذكور أكبرهم يدعى حسام ثم نسيم، ‏عصام، سمير، أسامة وتيسير، وأربع من الإناث وهنَّ شكرية، صبحية، سميرة ووسام. عاشوا ‏جميعًا في بيت متواضع مكون من غرفتين فقط. عمل الوالد رئيسًا لجمعية زراعية لبعض الوقت ‏بعد عودته من السعودية، كان عمله يغطي جزءًا من الإحتياجات اليومية للعائلة التي اضطرت ‏مثل كثير من عائلات البلدة إلى تأمين ما تحتاجه عن طريق عمل ريفي شهير في تلك المنطقة ‏وهو”كسر اللوز”. ذلك العمل الشاق الذي دأب عليه كل افراد العائلة أمّن إلى توفير أكثر من ‏‏30% من ميزانية البيت بعد مرحلة حرب حزيران عام 1967.‏

عدّل جلسته، تناول حلوى بطعم القهوة كان قد قدمها لنا مسبقًا، لربما مرارة الطعم ذكرته بمرارة ‏تجربة هجرة عام 1967، فبدأ حديثه: “دخل جنود الاحتلال إلى بلدتنا التي شهدت اقتحاماتهم ‏المتكررة، طالب قائد الجيش الأهالي في جنوب القرية بالمغادرة قسرًا. فبدأت السيارات والشاحنات ‏الصغيرة المهترئة بحمل الرجال والنساء، وشيوخٍ إنحناءات ظهورهم أكبر من كيان الإحتلال ‏وأطفالٍ صغار لم تشفع لهم طفولتهم صعوبة الموقف”.‏

ويتابع، “لا أعلم إن كان بإمكاني تسمية هذا بحسن الحظ، فكنتُ وعائلتي نقطن شرق البلدة وقبل ‏وصول قوات الإحتلال بيوم جاءت أوامر من قائد الجيش الأعلى بوقف الترحيل”.‏

الإبتسامة الخجولة التي انفرجت من شفتيه عند استذكاره للموقف لم تدم طويلًا، أدار كرسيه ‏لمقابلة نافذة مكتبه وأطلق تنهيدة طويلة تثير في النفس الفضول لمعرفة ما ورائها، سرعان ما ‏تحول هذا الفضول إلى سؤالٍ أربك تنهيدته، فأجاب: “شيء مؤسف أنك لن تستطيع رؤية أشخاص ‏عزيزين على قلبك مرةً أُخرى، عمتي، وخالتي وخالي هجّروا جميعهم قسرًا قبل قرار الوقف ولم ‏أستطع رؤيتهم بعد ذلك اليوم”.‏

بعد قدوم الاحتلال الاسرائيلي طالت انتهاكاته عائلة الدكتور منير كأي عائلة فلسطينية في ذلك ‏الوقت، اعتقل شقيقه سمير لعام واحد، حيث كان يقع على عاتقه مسؤولية محل الخضار والدجاج ‏الذي كانت تملكه العائلة. أدى الإعتقال إلى انتقال ذلك الدور إلى الدكتور منير الذي كان لا ‏يزال طالبًا في المرحلة الثانوية؛ وهو ما أثّر على تحصيله الدراسي. أُفرج لاحقًا عن سمير واضطر ‏لتأديه امتحان الثانوية العامة عام1972 مع شقيقه منير الذي يصغره بعام، يستذكر تلك المرحلة ‏قائلًا: “لم أكن مهتمًا في التحصيل العلمي والدراسيّ؛ لإعتقادي بديهيًا أنَّ عائلتي ستقوم بتدريس ‏شقيقي سمير كونه يكبرني بعام ولن أحصل على تلك الفرصة بسبب دنو وضع عائلتي ‏الاقتصادي الذي لا يسمح بتكفل نفقات تعليم أكثر من فرد في العائلة. لكن شاءت الأقدار برسوب ‏شقيقي سمير في الثانوية ونجاحي بمعدل منخفض.” ‏

عكف الدكتور منير على توفير المال للسفر من أجل استكمال الدراسة على نفقته الشخصية، ‏فوازن بتقسيم دخله من العمل بين مشروعه الدراسي والعائلة، كونه المعيل الوحيد مع والده في ‏ذلك الوقت.‏

معايشته للنكسة الفلسطينية، وحمل المسؤولية في عمرٍ مبكّر، والوضع المالي السيء وعدد أفراد ‏العائلة كبير، عقبات في حياة الدكتور منير لم يكن باستطاعته تجاوزها لولا تبدّل الأقدار.‏

إلى الهند.. حيث رُسمت ملامح الطريق

بسبب ندرة الجامعات في الضفة الغربية في ذلك الوقت، حصل الدكتور منير على قبول لدراسة ‏بكالوريوس الفيزياء والرياضيات والكيمياء في جامعة ميسور الهندية عام 1974؛ ولحسن حظه ‏كان المبلغ الذي وفّره خلال عامين من العمل يكفي للسفر والمصروف الدراسي في تلك البلاد ‏الآسيوية. عاد إلى فلسطين للعمل مجددًا؛ حتى يستطيع توفير ما يكفيه لأعوام جديدة في مسيرته ‏التعليمية المقبلة. وبالفعل تمكن من ذلك، فاستطاع أن يوفّر مصروفه لعام ونصف من العمل في ‏محال لبيع الجملة في الداخل الفلسطيني المحتل، ولكن ذلك المال كان يوفّر له الحد الأدنى من ‏الحياة الكريمة مقارنةً بزملائه الغير فلسطينيين.‏

‏”عشتُ بعض الصعوبات التي لا بد من مواجهتها في الغربة؛ كنتُ ألجأ اضطرارًا للمشي على ‏دراجتي الهوائية يوميًا حوالي 20 كم حتى أصل إلى الجامعة. لم يكن أمامي سوى الهدف الذي ‏أتيت إلى الهند من أجله، وكيف سأستطيع توفير نفقاتي خلال سنين دراستي دون أن يزيد ذلك ‏عبئًا على عائلتي”.‏

تتأرجح الحياة بالإنسان ككفتيّ ميزان، تعبس له تارةً وتضحك تارةً أخرى، ولعلّ بعد عبوسها ‏الطويل في وجه الدكتور منير قررت أن تبتسم له؛ ليكمل دراسة ماجستير الفيزياء بدعمٍ من شقيقه ‏الأكبر سمير الذي وفّر له كل ما يحتاجه للمضي قدمًا في علمه ودراسته.‏

يقول منير، “لشدة ولعي بالفيزياء اخترته تخصصًا دونًا عن غيره؛ لإكمال درجة الماجستير به، فلم ‏أكن أرى نفسي سوى خبير يتقن التحكم بالخواص الفيزيائية للمواد الكيميائية التي يتم تحضيرها”.‏

انسجامٌ لطيفٌ بين الديانات تجسّد في تجربته

تأقلّم مع البيئة الهندية سريعًا، بالرغم من الإختلاف في اللغة والدين مع البيئة المحيطة، فاسترسل ‏في حديثه: “الشعب الهندي شعب طيب جدًا. يحتاج المغترب إلى طريقة صحيحة في التعامل ‏معه، خلال سنوات دراستي هناك كنتُ أحاول نقل صورة جيدة عن المسلمين عن طريق نسج ‏علاقات اجتماعية متميزة، ذلك بسبب عداء الهندوس الشديد للمسلمين”.‏

وتابع، “حرصتُ في المناسبات الإسلامية على توزيع الحلوى والهدايا على الأصدقاء من الديانة ‏الهندوسية معرِفًا إياهم بأسماء الأعياد الإسلامية والعادات المتعارفة فيها. ولم يخلُ الأمر من ‏تهنئتهم في مناسباتهم أيضًا، مما وفّر لي حياة مستقرة بعيدًا عن حالة التعصب الديني الحادّ في ‏الهند”. ‏

لم يخلُ الأمر من دور الحكومة الهندية في تقديم الكثير من المنح والمساعدات للجالية الفلسطينية ‏في الهند، انعكس ذلك إيجابًا على الدكتور منير الذي استفاد من هذه المنح. كما عمل على ‏استثمار العلاقات الجيدة التي كونّها في مساعدة الطلاب الفلسطينين بحكم عضويته في الإتحاد ‏العام الطلاب الفلسطينيين في الهند.‏

لجامعة ميسور النصيب الأكبر في قلب الدكتور منير؛ لإختيارها مجددًا للدراسة والتقدم لدرجة ‏الدكتوراة في موضوع “السوائل البلورية”، وفِّق في اختيار البحث؛ لقلة التطبيقات في هذا المجال ‏رغم أهميته. مما أهّله للحصول على منح من مركز الفيزياء النظريّة في إيطاليا على حساب ‏الحكومة الهندية بتغطية تذاكر السفر والإقامة.‏

‏4 سنوات ونصف في دراسة الدكتوراة أُنهيت بتقدير جيد جدًا، عاد بعدها إلى أرض الوطن؛ ‏ليحصل في تاريخ 15/3/1986 على فرصة للعمل محاضرًا في قسم الفيزياء في جامعة النجاح ‏بصفة أستاذ مساعد ثم حصل لاحقًا في عام 1997 على درجة أستاذ مشارك‎ ‎حتى الآن.‏

‏”عند عودتي إلى فلسطين لم أستطع الحصول على فرصة العمل في الجامعة بسبب الأوضاع ‏السياسية في ذلك الوقت.‏

ترأس قسم الفيزياء في جامعة النجاح الوطنية في الفترة ما بين عامي 1998-1999، وشغل ‏منصب عضو في لجان قسم الفيزياء لسنوات مختلفة، ودأب أيضًا على كتابة مواد دراسية معتمدة ‏من عمادة كلية العلوم إلى الآن، فكتبَ دوسية مختبر فيزياء عامة 2 ودوسية مختبر فيزياء عامة ‏لطلبة الزراعة.‏

بينما تتسلل إلى الطابق الخامس في كلية العلوم حيث المختبرات العلمية الخاصة في قسم ‏الفيزياء، ترى الدكتور منير بإحدى محاضراته المخبريّة، مرتديًا الزي الأبيض، يمسك بإحدى ‏المواد التي تم تحضيرها ويتفحصها جيدًا، ولا أحد يفهم تعبيرات وجهه التي يكون خلفها ألآف ‏الأفكار في عقله سوى من هو في مستواه العلمي.‏

‏”أقوم بتدريس العدد من المساقات العملية منذ تعييني، ويحتاج الطلبة مثل هذه التجارب؛ ‏لتساعدهم على فهم الظواهر من حولهم، لا شك أنه يقع على عاتقي مسؤولية الطلبة جميعهم عند ‏وجودهم في المختبرات وذلك لحساسية وخطورة بعض المواد التي تحتاج أن تعاملها بنعومة وحذرٍ ‏شديد؛ لتقيك شرّها”.‏

المربّي والمعلّم

منير الدكتور والمعلّم لم يختلف كثيرًا عن منير الأب؛ فالمحاضر أو الأستاذ الناجح هو الذي يبني ‏مع طلبته علاقة قائمة على الإحترام والثقة المتبادلة، وهذا ما حرص على غرسه بأولاده منذ ‏نعومة أظافرهم. جهاد، مراد، فنن، نور ورند، خمسة أبناء للدكتور منير كأي عائلة فلسطينية تنجب ‏ضمن المعدل الطبيعي للمواليد. ‏

لم تثنه انشغالاته الدائمة عن إعطاء كلًا من أبنائه حقه الطبيعي من الأبوّة؛ فوصف نفسه ‏بالصديق الأب لأولاده، فيقول: “المشاركة أساس نجاح أسرتي، بدءًا من القرارات المصيرية للأسرة ‏انتهاءً بالقرارات اليومية المعتادة. ولم أفرِّق بين أبنائي يومًا”.‏

ويتابع مبتسمًا، “زوجتي وبناتي يثقن في ذوقي كثيرًا، ويأخذنه بعين الإعتبار دائمًا. فلي دوري ‏الأساسي في الأعمال المنزلية ولم أشعر يومًا أن هذا يقلل من رجولتي أو مكانتي كما النظرة ‏السائدة في المجتمع الفلسطيني، بل أنني أحيانًا أفضل إنهاء الأعمال بيديّ؛ لإتقانه أكثر من أي ‏ربّة منزل، كما أنني أعتني بحديقة المنزل كثيرًا لأن زوجتي تحب الأزهار”.‏

مال برأسه قليلًا، وعدّل قميصه بني اللون وابتسم مجددًا ابتسامة مليئة بالحنين لابنته الكبرى فنن؛ ‏كونها تزوجت وذهبت برفقة زوجها إلى السعوديّة لفترة مؤقتة لتبتعد عن عش أسرتها المتماسك. ‏فاستذكر أحد المواقف، خلال تحضيرها لدخولها سنتها الأولى في الجامعة، فيقول: “كنتُ ورفقة ‏ابنتي لتشتري جاكيت شتوي من أحد المحال في مدينة نابلس، وكأي فتاة في مقتبل العمر أُعجبت ‏بالألوان الصارخة، فوقعنا أمام خيارين أحدهما اللون الأحمر الذي تحب، فسألتني، ‏

‏”شو رأيك بابا؟”، فأخذت أتحسس قماشة كلًا من الجاكيتيين وأشرت لها بإختيار ذي اللون الغامق؛ ‏لأن جودته أفضل، أخذته ولم تتردد لحظة”.‏

أمّا عن جهاد، أكبر أبناؤه‎ ‎ويعمل مهندسًا باتحاد المقاولين العرب، فتراه يتحدث عنه بفخرٍ لم يسبق ‏له مثيل؛ فهو سعيد لما وصل عليه أولاده إلى الآن بتربيتهم الحسنة التي يشهد لها جميع من ‏عرفهم. ‏

‏”جهاد كان له نصيب الأسد من قسوتي وصرامتي كونه ذكر و أول أبنائي”. ‏

فاستذكر له موقفًا خلال سنين الدراسة في جامعة النجاح الوطنية عندما قرر جهاد أخذ سكن في ‏نابلس برفقة زملائه في الجامعة، فقال: “في البداية رفضتُ قطعيًا فكرة السكن في مدينة نابلس ‏لسببين، الأول بسبب الأحداث السياسية الغير مستقرة في ذلك الوقت في عام 2006 وخوفي عليه ‏من التأثر في حماس الشباب الزائد، أما الثاني فكان بسبب وجود سيارتي الخاصة فالمواصلات له ‏متوفرة ذهابًا وإيابًا”.‏

ويتابع، “لم أعتد أن أمنع أبنائي من فعل شيءٍ ما إلّا عن قناعة ورغبة منهم، فما كان مني سوى ‏السماح له بتجربة العيش في نابلس. بدأ أسبوع جديد وكان أحد مساقات الفصل يأخذها لديّ في ‏الساعة الثامنة صباحًا، لم أعهد له أن يتأخر عن المحاضرة دقيقةٍ واحدة كوني والده في أول ‏الأمر وآخره فهو يحترم ذلك، ومجيئنا سويًا إلى الجامعة بشكل يومي. في ذلك اليوم تأخر عن ‏المحاضرة لمدة دقيقتين؛ فخرجت هاتفته على جهازه المحمول ليجيب بأنه في الطريق قادمًا. وصل ‏المحاضرة متأخرًا عشرُ دقائق، بعد انتهاء المحاضرة أتى يقول لي أنه يريد أن يتكلم معي، فقلتُ ‏له أن ينصرف، وهو يعلم، عند قولي لهذه الكلمة فإنني أكون في قمة غضبي”.‏

ويضيف، “وصلنا إلى المنزل وطلبته لنتحدث عن ما حصل؛ فذهبنا إلى غرفة أخرى من غرف ‏المنزل لأنني اعتدت إعطاء كل فرد في أسرتي خصوصية بالتكلم لعدم شعوره بالحرج أمام البقية؛ ‏لأتفاجئ بأنه يريد أن يخبرني بأنه لم يعد يرغب بالعيش في نابلس لتقصيره في علاماته مما ‏اضطره إلى تحويل تخصصه”.‏

كأي والدٍ يحب أن يرى تعبه قد بدأ يُثمر في أبنائه أراد الدكتور منير إيصال أولاده إلى بر الأمان ‏في الحياة لإحساسه بالمسؤولية تجاههم وأن سمعة الإنسان هي رصيده الوحيد في الدنيا.‏

فأنهى نجله البكر جهاد هندسة الكهرباء في جامعة النجاح الوطنية، أما مراد فأنهى دراسة الهندسة ‏المدنية ويعمل في شركة نوكيا للإتصالات وشقيقتهم الكبرى فنن أنهت تخصص الأحياء ‏بيوتكنولوجي وتعمل في معهد البحوث الزراعية في محافظة قباطية في مدينة جنين، وأوسطهم ‏نور، أما أصغرهم رند.‏

‏”من شبَّ على شيء شابَ عليه”‏

مثلما تزرع تحصد، هكذا بدأ قوله الدكتور منير عندما بدأ الحديث عن والدته التي كانت من أهم ‏الأحداث في يومه، فيقول: “علاقتي مع والدتي كانت مميزة جدًا، كل يوم من أيام الأسبوع كانت ‏عادة لي بعد أن أوصل أبنائي وزوجتي إلى العمل صباحًا، أن أذهب لمنزل أمي التي تعيش به ‏بمفردها لنشرب القهوة سويًا-رغم أنني لا أحبها- لكن يصبح مذاقها مختلفًا وأحبها لأجل أن أجلس ‏مع أمي يوميًا ونتحدث. وإذا تأخرت قليلًا بعد الساعة السابعة والنصف تخرج إلى الشارع؛ لتطلب ‏من أحد الجيران أن يكلمني على هاتفي؛ لتتحدث معي”.‏

ويتابع، “هناك بعض الأكلات الشعبية القديمة التي تحبها مثل “رقاقة وعدس”، زوجتي أم جهاد ‏هي الوحيدة من بين نساء أخي تستطيع تحضيرها بشكل جيد؛ لذلك كنت أُحضر لها كميات لا ‏بأس بها بعد جولة قصيرة على كبار السن من جيراننا في الحي وعائلات إخوتي كذلك؛ ‏ليتذوقوها”.‏

تمارس الحياة أنانيتها كالمعتاد بسرقة أعز ما قد يملك الإنسان، فتوفى الله والدة الدكتور منير في ‏تاريخ 21/5/2016 بعد كسرٍ في الحوض أصابها بجلطة في المعدة لم يدرِ بها الأطباء ولم ‏تمهلها طويلًا.‏

وضع يديه على ركبتيه مثل شخصٍ كان يركض لمسافةٍ طويلة وأراد أن يستريح، مرارة التذكّر ‏كانت جلية جدًا في ملامح وجهه التي تخط التجاعيد طريقًا شاقًا عليها، تنّهد، أسند ظهره على ‏الكرسي الحديدي الذي فضّل أن يجلس عليه؛ ليكن متساويًا معي، بدلًا من أن يجلس على كرسيه ‏المخصص خلف مكتبه، وقال: “وفاة أمي ترك أثر وفراغ كبير في حياتي، صعب على الإنسان أن ‏يعتاد على شيء فيفقده فجأة دون سابق إنذار. وخصوصًا أنها أم..”‏

ترك الدكتور منير حرية الإختيار كيف يكون نهاية الحديث عن فقد الأم ليبهت الحديث قليلًا ‏ببرودة كسرها مباشرةً بالحديث عن والده.‏

استرسل بحديثه قائلًا: “والدي كان أقرب شخص على قلبي بعد أمي، العلاقة بيني وبين أبنائي ‏الآن تشبه إلى حدٍ كبير الذي كان بيني وبين والدي، كان صديقي ومعلمي قبل أن يمارس سلطة ‏الأبوّة عليّ وعلى أشقائي”.‏

وتابع، “في أيامه الأخيرة كنتُ رفيق لياليه في تمكّن التعب والمرض من جسده حتى توفي بتاريخ ‏‏22/6/2004، في يوم وفاته ذهبت إلى أحد زوايا المنزل وبكيت، لتأتِ شقيقتي الأكبر باستغرابٍ ‏على وجهها من بكائي، وقالت لي لما تبكي وأنت أكثرنا برًا بوالدي حتى في أيامه الأخيرة، فأجبتها ‏بأنه والدي ومن يخسر أباه فلا سندٌ له، وتلك كانت المرة الأولى التي أبكي فيها على فراق أحد”.‏

أشار الدكتور منير في حديثه عن علاقته بوالديه وعائلته أنه زرع  في أبنائه ثقافة الإحترام ‏للعادات والتقاليد المتوارثة قديمًا بين الناس، فكان يخصص يومٌ كامل بشكل دوري لأحد أبنائه؛ ‏لرعاية ومجالسة جدهم وجدتهم وتسليتهم بالحديث حتى لو كانت تلك الأحاديث متكررة؛ لحرصه ‏على عدم شعور والديه بالوحدة والتهميش. كما اعتاد على تعويدهم بتقبيل يد كبار السن من ‏منطلق الإحترام ليس إلّا، فاستذكر موقفًا طريفًا لأوسط أبنائه نور وهي صغيرة بالسن.‏

ضحك كثيرًا وهو يستذكر براءة طفلته نو، فقال: “عندما كانت نور تقبّل يد جدها كان يقول لها الله ‏يرضى عليكِ، في أحد الأيام أحضرتها معي إلى الجامعة فأحد زملائي من الدكاترة قبّل يدها ‏فبادرته بالقول الله يرضى عليك لاعتقادها بأن هذا عرف وواجب بعد تقبيل اليد”.‏

معادلة فيزيائية وكيميائية صعبة!‏

 كما علاقاته الجيّدة في الهند فليس غريب على شخص إجتماعيٌ بطبعه أن يكوّن صداقات ‏وعلاقات جيّدة في مكان عمله الحالي في الجامعة أيضًا، من مكتبه بالفيزياء إلى مكتب الدكتور ‏إسماعيل ورّاد في الكيمياء في الطابق ذاته في كلية العلوم يتفاعلان بانسجامٍ تام في العمل ‏والصداقة.‏

‏”هو قصير وأنا طويل والناس بتضحك علينا”، هكذا بدأ الدكتور إسماعيل ورّاد بخفة ظل لوصف ‏علاقته مع الدكتور منير عبده. فقال: “الدكتور منير شخص رائع جدًا، من الأشخاص القلائل ‏الذين يتميزون بتواضع رغم مكانتهم بين الناس، مرح، خدوم وبسيط فلا تشعر بأنك غريبٌ في ‏تعاملك معه للمرة الأولى”.‏

ويتابع، “أذكر في وجودنا في الهند بالتحديد في الرحلة الأخيرة؛ لعمل أبحاث، كان يصر للبقاء ‏معنا في المختبر حتى الساعة الرابعة فجرًا ولا يقبل العودة إلى السكن بينما نحن مستيقظون ‏للعمل، كنت ألح عليه للذهاب؛ لسنه الكبير وحاجة جسده للراحة. كما أن وجوده معنا في الهند ‏ساعدنا كثيرًا لأنه يتقن اللغة الكاندية والإنجليزية فكان يتعامل بسلاسة مع أهل البلاد هناك”.‏

ويضيف، “قمنا بنشر العديد من الأبحاث المحكّمة والقوية في مجلات عديدة وذلك بسبب سفرنا ‏سويًا إلى الهند وعلاقات الدكتور منير الجيّدة هناك، كنا نحصل على أي شيء نريده لأبحاثنا ‏بشكل شبه مجاني، واستخدام الأجهزة مهما كانت تكلفتها وذلك لندرة وجود العديد منها في الوطن ‏العربي. بالإضافة أن تكلفتنا المادية لقياس عينة أي بحث كانت تساوي “صفر” في الهند، بينما ‏في أوروبا تكلف حوالي 1000 دولار وفي الأردن 300 دينار”.‏

ويتابع، “آخر بحث محكّم تم نشره قبل حوالي أسبوع واحد فقط، والمجموع الكلي للأبحاث العلمية ‏التي جمعتنا في هذا العام تساوي ثمانية أبحاث محكّمة، أما في العام الماضي كانت 11 بحث ‏علمي، ومن المتوقع إذا بقي التعاون بيننا وبين الهند أن يتم نشر عالأقل 5 أبحاث علمية محكّمة ‏مع الدكتور منير. وخلال الشهر القادم سيكون لنا زيارة إلى الهند”.‏

الرحلة بدأت، ودرجات علمية لا تقف عند حد ‏

بعد أن كان حلم الدراسة بعيدًا عن ناظري الدكتور منير عبده أصبح الآن طريقٌ للعيش لا يملّ، ‏بكالوريوس، ماجستير ودكتوراة جميعها درجاتٍ علميّة ليس سهلٌ على الإنسان الحصول عليها إذ ‏لم يجتهد ويمنح سني عمره لمجهود الدراسة التي لا تقف عند حد. بيدَ أن طاقة وشغف الدكتور ‏منير لا تكل فهو الآن في طريقه إلى درجة البروفيسور في الفيزياء. ‏

‏”بعد رحلتي الطويلة مع الفيزياء، لم أستطع التوقف إلى هذا الحد، فالآن بدأت رحلتي مرة أخرى ‏مع درجة علمية جديدة وهي البروفيسور، وقررتُ أن تكون في جامعة ميسور التي أدين لها ‏الكثير”.‏

وتابع، “رسالتي في درجة البروفيسور ستكون في ذات سياق رسالة الماجستير لكن بشكلٍ متعمّق ‏ودقيق أكثر، أي سأدرس تركيب البلورات وخصائصها الفيزيائية لقلة الدراسة والعمل في هذا ‏المجال”.‏

تنهيدة طويلة من رجلٌ ستيني كفيلة أن تصف لك تعب السنين التي مرَّ بها، فلا وصولٌ دون لعق ‏مرارة التجربة ومكابدة مشقة الحياة، لكن من يصبر ينال ويتذوق حلاوة النجاح في فمه. ويسطر لنا ‏الدكتور منير مثالًا رائعًا يُحتذى به في طاقاتٍ لا تنتهي وجهودٍ غضّة كغصنٍ لا يزال أخضر رغم ‏تتابع الفصول عليه.‏

معلومات عن التقرير

إعداد: هالة أبوعيشة، أسماء باسم

إشراف: أ.أيمن المصري/ قسم الصحافة المكتوبة والإلكترونية

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.