صوت الصمت عالٍ

بقلم: علاء ابو ضهير

لم أتشجع على المشاركة بالفعالية‎ ‎التي نظمها مركز نماء بنابلس بعنوان يومك صامت، بل ترددت بالمشاركة ‏بها كثيراً، كيف لا وأنا أنتمي لثقافة أدمنت الكلام وفضّلته على الصمت منذ نشأتها. ثقافة تخجل من الاعتراف ‏بتعب الروح وإرهاقها، ثقافة تقوم على المبالغة بتقدير الذات وتحميلها أكثر مما تستطيع حمله من هموم ‏ومتاعب دون أخذ قسط من الوقت للراحة والتأمل أو إجازة من الهموم والضغوط اليومية.  ‏

تقوم ثقافة يومك صامت كما تقول السيدة خلود المصري مديرة مركز نماء على الانعزال عن بيئة العمل ‏والحياة الخاصة والعيش في مكان منعزل دون الحديث مع أناس آخرين ولعدة أيام أو أسابيع، ويغلب على ‏جلسات الصمت التأمل والعبادة والسكون وصولاً نحو السلام الداخلي والتعرف على الذات، والغوص في ‏أعماق النفس البشرية والتعرف على كينونتها وماهيتها وعذاباتها، ومن ثم تحريرها مما كنا نعتقد أنه هام ‏وضروري في حياتنا اليومية. ‏

تم وضعنا في قاعة متوسطة المساحة، جلسنا على الارض فرادى، لا وجود لأي وسيلة من وسائل الاتصال، ‏تمت مصادرة هواتفنا النقالة قبل دخولنا للقاعة وتم عزلنا عن العالم، هل جربت يوماً أن تنعزل عن عالمك ‏الخارجي لتتعرف ولو قليلاً على عالمك الداخلي! سؤال رافقني خلال جلسات الصمت المتواصل لمدة يوم من ‏أيام الجمعة في مدينة لا تهدأ ولا تمل من تواصل الازعاج فيها سواء بتلوثها الضوضائي أو بضيق صدور ‏سكانها وعدم تمتعهم بالروقان الذي يتمع به سكان العديد من المجتمعات غير العربية.  ‏

كنت قد شاركت خلال الخريف الفائت بورشة تدريبية في إحدى الغابات الفنلندية، تلك البلد القريبة على ‏القطب الشمالي، حيث المساحات الشاسعة من الاراضي والغابات العذراء، حيث تسمع صوت أوراق الشجر ‏وهي تتحدث مع بعضها البعض، وحيث تلامس وجهك نسمات الهواء المنعش وهي تصدر أصواتاً خفيفة بين ‏حين وآخر، وحيث تمشي على أوراق الأشجار الصفراء المتساقطة بفعل فصل الخريف مصدرة صوتاً ‏لتكسرها تحت أقدامك، لا صوت غير صوت أقدامك، وصوت خافت يأتي من بعيد لخرير مياه أحد الجداول ‏على بعد بضعة مئات من الامتار، قد يصدر أيضاً صوت لطير يتنقل من غصن لآخر طلباً للرزق، لكن، لا ‏صوت هناك لانسان يصرخ على أخيه الانسان، ولا مركبات أو آليات تسير في الطرقات مصدرةً أصواتها ‏المزعجة وروائحها السامة لرئتيك، تدرك هناك أن الكثير قد فاتك من هذا العمر، وأن سنوات طويلة قد تم ‏هدرها في صراعات ومناكفات أرهقت روحك وتركتك ممزقاً ومبعثراً ومشتتاً وفاقداً لقدرتك على التمتع ‏بسلامك الداخلي لا لشيء الا لانشغالك عن ذاتك واحتياجاتك بذوات الآخرين واحتياجاتهم.‏

‏ تشاهد في تلك الاجواء كل ما هو جميل في قلبك وتتذكر أنك انسان من أديم هذه الارض، كم أبعدتنا المدنية ‏عن ذواتنا وحرمتنا من التعرف عليها وعلى إحتياجاتنا الانسانية، إن الاصغاء لصوت الصمت مطلب إنساني ‏وضروري، لا بد منه كي تعيش حياةً طبيعية، لا يمكننا أن نتوقع أن ننتج مواطناً يتمتع بسلوك متزن ‏وتصرفات هادئة ورزينة طالما لم يجرب هذا الانسان العيش في بيئة هادئة وعذراء وبعيدة عن الصخب ‏والضجيج، لا يمكننا حل مشاكل الضوضاء التي نعاني منها طالما بقيت ضوضاء الذات عالية، لا سلام ولا ‏هدوء في حياتنا اليومية إذا لم ترافقها مشاعر الهدوء الداخلي. كيف لنا أن نحصل على ذلك الهدوء اذا لم ‏نشعر بأهمية هذا المطلب؟ لن نشعر بما هو مفقود في مشاعرنا الداخلية إلا إذا خضنا تجربة مفعمة بالمشاعر ‏الجميلة ولو مؤقتاً.  ‏

نعيش حياتنا كبشر، لكننا لا ندرك أن الحياة البشرية تختلف عن الحياة الانسانية، وهذا ما حاولت اسطورة ‏جلجامش تعريفنا عليه من خلال شخصية البطل أنكيدو في هذه الرواية الآشورية القديمة، فإذا اقتصرت ‏اهتمامات الانسان على متاع الحياة الدنيا دون إدراك لما هو أسمى وأجمل فانه يبقى عند المستوى البشري في ‏التطور الروحي لوجوده لكنه يرتقي ويسمو بالروح عند اقترابه من تلبية احتياجاتها واداركه لما هو كامن ‏وراء هذا العالم المرئي وغوصه في أعماق الذات.‏

أذكر أننا كنا قد درسنا أسطورة هندية عندما كنا ندرس الفلسفة في جامعة دمشق، تقول الاسطورة أن الآلهة ‏الهندية قد إجتمعت يوماً لتدارس خطورة هذا الكائن المتفوق على ذاته والمسمى بالانسان، إذ خشيت الآلهة أن ‏يشكل وجود هذا الكائن خطراً على الكون وهو في خضم بحثه عن سعادته في هذه الحياة، فاقترح أحد الآلهة ‏أن يتم دفن سر السعادة في أعماق البحر، فرد عليه أحد الآلهة بأن الانسان سيطور من منظومته التقنية يوماً ‏ما وسيبحر في عرض البحر وسيغوص في أعماقه، ومن ثم سيعثر على سر السعادة، ثم اقترح إله آخر أن يتم ‏دفن سر سعادة الانسان في السماء فكان الرد من إله آخر بأن الانسان قد يتطور يوماً ما ويسبح في الفضاء، ‏وقد يعثر على سر سعادته هناك، وهكذا استمرت الآلهة بتقديم مقترحات لدفن هذا السر تارة في الصحراء ‏وأخرى في القمر، لكن كبير الآلهة استوقفهم قائلاً: سندفن سر سعادة الانسان في أعماق ذاته، أي في قلبه، ‏ولأن الانسان قد فرض على نفسه الشقاء في هذه الحياة، فإنه يعتقد بأن السعادة كامنة في كل ما هو خارج عن ‏ذاته وسيستمر في اللهاث ورائه، وسيقضي حياته وهو يركض ركض الوحوش من مكان لآخر للبحث عن ‏سعادته دون أن يدرك أن هذا السر كامن في قلبه. ‏

إذا كانت الاسطورة قد أوصلت إلينا هذا السر، فلماذا نستمر في ركضنا ركض الوحوش دون أن ندوس على ‏الفرامل ولو ليوم من الصمت لنعيد فيه تقييم مسيرتنا الروحية والنفسية في هذا الحياة، واعادة ترتيب ‏أولوياتنا. يحتاج الانسان السوي الى لقاء الطبيعة مرة أسبوعياً، متى كانت آخر مرة التقيت بها بالطبيعة، ‏ونقصد بالطبيعة هنا الغابة أو البحر أو الصحراء أو النهر أو حتى النظر الى السماء والتمعن في أجرامها، لا ‏يجوز لنا أن نعتبر أنفسنا أسوياء دون أن نتمتع بهذه الفرص الضرورية لتجسيد أنسانيتنا، لا يجوز أن نطلق ‏على أنفسنا مسمى (إنسان) إذا لم نتمتع بحب الطبيعة وعشقها والحفاظ عليها والتفاني في خدمتها وخدمة كل ‏مفرداتها وملامحها، بل لقد ذهبت بعض الاديان الى تقديس الطبيعة تقديراً لدورها في خدمة الانسان ‏وازدهاره روحياً ودينياً، ونحن الان نعيش في مساكن إسمنتية بيضاء لا تتمتع الا ببعض الخضرة القليلة هنا ‏وهناك، حبسنا أنفسنا داخلها وحرمنا أرواحنا من التحليق خارج إطارها، وإنشغلنا بمتابعة إحتياجاتنا الكمالية ‏والتي أوهمنا أنفسنا بأنها ضرورية لا غنىً عنها، وبذلك أصبحنا أسرىً لهذا الوهم.‏

هل تساءلنا يوماً لماذا نشعر بالراحة عند رؤيتنا لأي مشهد أخضر! ترتاح الروح قبل الجسد فور رؤية اللون ‏الأخضر في الجبال والسهول والهضاب، تحنُ الروح الى جذورها وماضيها الذي عاشت فيه في زمن من ‏الازمان في عالم من العوالم الخفية التي لا نعلم عنها كثيراً، تحن الروح الى كل ما يعزز روحانيتها، في حين ‏تقتل حياتنا اليومية كل ما تبقى لدينا من روحانيات، ومن هنا جاء هذا اليوم الصامت الذي كان بمثابة منعطف ‏آخر من المنعطفات الروحية التي مررت بها في هذه الحياة المتلاطمة الامواج. ‏

نتساءل دوماً كيف سنستطيع حل مشكلة أزمة السير وهمجية السائقين وزعرنة الكثيرين من الشبان ‏ومشاكساتهم ومعاكساتهم للفتيات في الشوارع، كيف سنتغلب على الفساد الاداري والمالي والسياسي ‏والاقتصادي، كيف سنبني بنية تحيتة ملائمة لأبسط حقوق الانسان، لكننا أهملنا دون قصد أن أهم ما يتوجب ‏علينا بناؤه هو الانسان، ليس بالتعليم فقط وانما بالمناعة الروحية الداخلية التي تحافظ على هذا الانسان قوياً ‏في مواجهة الظروف المتغيرة، لنفترض أننا قمنا بالتركيز منذ الطفولة على تعزيز انتماء الطفل للطبيعة من ‏خلال التواصل المباشر معها وبالتجوال على أرضها والنوم على ترابها، ترى هل سنحصل على مواطن غير ‏منتمٍ كهذا الذي نملكه اليوم. لا شك أن الانسان الذي يلامس جمال الطبيعة يتعرف على ذاته من خلالها ‏وبالتالي يؤمن بأنه جزء لا يتجزأ من هذا العالم، ويشعر بالانتماء الروحي والفيزيائي له، مما سيحقق ‏الانسجام والتناغم بينهما بدلاً من علاقة التمرد والانفصام التي يعانيها الانسان المعاصر مع بيئته المحيطة.  ‏

تتصل ممارسة الصمت بكل ما هو صوفي في عالم الروحانيات، يأخذك الصمت الى كل ما هو جميل ونقي ‏في هذا الكون، ويأخذك الفكر الصوفي والشعر الصوفي وموسيقاه الى كل ما هو سامٍ وجميل ونقي في هذه ‏الحياة الدنيوية أو تلك الاخروية، تحتاج تنقية النفس الى الكثير من الجهد الذي لا يتوفر لدينا بسبب انشغالنا ‏بتصاريف الحياة وأعبائها. ‏

حدثتني منسقة (اليوم الصامت) عن هذه المبادرة الرائدة والصعوبات التي واجهتها في إقناع أبناء هذا الوطن ‏الصاخب المكتظ بالأحداث، واجهتها تحديات كثيرة في إيصال المشاركين الى مرحلة السلام الداخلي المؤقت ‏وتدريبهم على التعرف على ذواتهم، لم يكن عدد المشاركين كبيراً، لم تيأس ولم تتردد عن الاعلان عن تنظيم ‏هذا اليوم الصامت، واستمرت بالاعداد لانجاح هذه الفعالية بكل ما هو متاح، أعدت لنا متكئاً على الارض ‏وطلبت منا إغماض أعيننا وبدأنا مشواراً طويلاً من التفكير مع أنفسنا، واستعراض مسيرة حياتنا باخفاقاتها ‏وجمالياتها، أين كنا وأين أصبحنا، وتساءلنا كثيراً خلال لحظات الصمت، ماذا فعلنا لأرواحنا في هذه الحياة، ‏فعلنا الكثير من الانجازات المادية بل واصبحنا ندور في فلك المتطلبات المادية كمثل الثور المربوط بالساقية، ‏نظن أنفسنا نسير ونسير لكننا لم نكن نبرح المكان الذي نسير فيه، لأننا كمن عصب عينيه ومشى وظن أنه ‏ينتقل من مكان لآخر، وفي خريف العمر، أزلنا العصبة عن عيوننا فوجدنا أننا لا زلنا في مكاننا، فطالما لم يتم ‏إنجاز الكثير من الروحانيات في الحياة، فأننا نقف مكاننا، لا بل ونتراجع الى الوراء لأننا حرمنا هذه الروح ‏الجميلة من لذة معرفة ذاتها كما شجعنا سقراط قديماً قائلاً: إعرف نفسك. فهل ستبادر لمعرفتها؟ أنصحك ‏واشجعك على عدم تأجيل ذلك، فلا زال لديك متسع من الوقت. آن الاوان أكثر من أي وقت مضى لوضع ‏الروح أولا، فما قيمة كل ما نجمعه من مقتنيات وماديات اذا سيطر الخواء على الروح والجفاف على النفس ‏والشقاء على الانسان برمته. ‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.