ثقافة الحكاية الشعبية..كيف نطوّرها بِأساليب حديثة؟

مقال: ايمان فقها

“كان يا مكان..في قديم الزمان”، هي بداية الحكاية التي ترعرع جزء كبير منّا عليها، لا زِلنا نستذكر قصصًا عدّة سردتها لنا جدّاتنا بأسلوبهنّ المّميز. احتوت هذه الحكايات الشعبية على دروس وَعبر تُرّكز غالبًا حول الصراع بين الخير والشرّ، لِتتمّيز كل حضارة بوجود عدد من الحكايا تُمّيز بها ثقافتها، وتحتوي على فحوى تاريخها، لِتنتقل من جيل لآخر حتى تصل لنا، منها ما تطوّر أو نُقل بشكلٍ وصيغة مختلفة، لكنها بقيت من أهمّ مصادر الثقافة والتراث الشعبي، بِما تَتضمّنه من أحداث ربّما تلاشت بسبب التحريف والمبالغة.

وَاتّسمت الحكاية الشعبية أنهّا مليئة بالعبر والحكم، وتحتوي على خلاصة تجارب كثيرة، لِتكون من أهمّ وسائل نقل الثقافة والقيم للأجيال اللاحقة. إضافة إلى تداولها وانتشارها بين الشعوب منذ زمن بعيد عن طريق الرواية الشفوية من خلال شخص يُطلق عليه (الحكواتي، أو الراوي، أو القوّال) لِيُكسِب المستمعين دروسًا تعبّر عن الثقافة والعادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية التي وُجِدت في حضارة أو مَرحلة ما، لتكون جزءًا من الثقافة الشعبية التي تُجسّد المعتقدات والعادات والممارسات الحياتية، وتُبرز تُراث الأمم وتُشكًل ثقافته.  

وَيغلب على نهاية الحكايات الشعبية انتصار الشخصيات الرئيسة على الشرّ، لِتكون مقتبسة من الواقع والعادات الاجتماعية، وَتعكس البيئة التي يعيش فيها الحكواتي، أو حكايات سَمعها من أجداده.

كما تعدّدت الآراء حول أصل الحكاية الشعبية، منهم من نسبها إلى الهند، والآخرون إلى مصر لإيجادهم بعضًا منها على النقوش الفرعونية، مثل حكاية (الصدق والكذب)، فيما نَالت المجموعة القصصية (ألف ليلة وليلة) شهرة واسعة وانتشرت في مختلف أرجاء العالم.

الحكاية الشعبية الأوروبية…

 في أوروبا، شارل بيرو، الكاتب الفرنسي الذي وضع حجر الأساس في الحكايات الشعبية، وَأشهر ما كتبه قصّة (ذات الرداء الحمراء) التي وصلتنا فلسطينيًا بِمُسمّى (ليلى والذئب)، كان هدفه من خلالها تسلية الحاشية الملكية وَتربية أبنائهم عن طريق تقديم العبر والأهداف من مضمون هذه الحكايات.

أمّا الأخوين الألمانيين جريم، فقد اهتمّوا باللغة والفلسفة والدراسات الثقافية، فسافروا إلى أنحاء شتّى من ألمانيا، لجمع الحكايات الشعبية، منها ما نقّحوها وعدّلوها لِتصل إلى أنحاء العالم ضمن سلسلة كاملة بِاسم (حكايات الأخوين جريم) التي تُرجمت لأكثر من مئة لغة، منها (بياض الثلج) التي وصلت فلسطين، وشاهدناها في أفلام الرسوم المتحركة.

ثقافة الحكاية الشعبية الفلسطينية…

حظيت الحكاية الشعبية باهتمام واسع بين المجتمع الفلسطيني، وتَعرض الثقافة الفلسطينية التي حافظ عليها الفلسطينيون بشكلٍ أكبر قبل نزوحهم جرّاء الاحتلال الإسرائيلي. اهتمّ المجتمع القروي بشكلٍ أكبر بها من خلال تخصيص جلساتٍ خاصة يحضر بها راوٍ يحدّثهم عن حكاية معينة.

فيما لا يزال مجتمع البادية ينقل الحكاية الشعبية التي غالبًا ما يسردها شاعرٌ مع ألحان الربابة، يتحدّث حول الغزوات التي حدثت والمغامرات التي قام بها أبناء شيوخ القبيلة، وتدور غالبيّة حكاياتهم حول الفروسية والحبّ.

ومع تطّوّر وسائل نقل القصص وظهور الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والتلفاز، إلا أن (الحكواتي) ما زال يسرد قصصه في أرجاء فلسطين كافّة، بطريقة محبّبة للجميع، يتفاعل مع الحكاية من خلال الحركات والصوت والإيماءات محافظًا على هذه الثقافة.

الحكواتي المتجوّل…

حمزة أسامة العقرباوي، حكواتي فلسطيني اهتمّ بجمع الموروث الشعبيّ وَما ارتبط بالحياة اليومية الفلسطينية من أمثال وأهازيج ومعتقدات شعبية لتوثيقها، لِيسردها بأسلوبٍ لا مثيل له، يحبّه جمهوره لإتقانه اللهجة العاميّة الفلسطينية بكلماتها الأصلية، ولعُروضه الحكواتيّة الشيّقة، ليبدأ منذ 2009م مشروع (الحكواتي المتنقل) يصطحب به الناس لرواية حكاية في أمَاكن فلسطينية متعدّدة، مُحافظُا على هذه الثقافة بأسلوبه المُمّيز.

أمّا المقدسية منال غنيم، فقرّرت أن تبدأ مسيرتها حكواتيّة لتسافر إلى مصر، وتنضمّ إلى فرقة الورشة المسرحيّة، لتحترف الحكاية من هناك، وتعود لِتسرد الحكايات من الموروث الشعبي الفلسطينيّ، والعربي، والعالمي.

فيما افتُتح “الحكواتي” في القدس عام 1984م، بِصفته أوّل مسرح فلسطيني متخصصّ على يد فرقة الحكواتي التي أدارته حتى عام 1989م، ليكون منبرًا للأنشطة الثقافية والفنية، إضافة إلى الاهتمام بالحفاظ على التراث والثقافة الفلسطينية.

(قول يا طير)، كتابٌ نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية، جَمع أبرز الحكايات الشعبية من قصص الفلسطينيين الذين هجرّوا من قراهم، ليِوثق حكاياتهم ويحافظ على عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم التي عاشوا معها قبل التهجير.

(الشاطر حسن، وجبينة، ونص انصيص، والكوك)، بعض من الحكايات الشعبية الفلسطينية القديمة، التي لا زالت تحافظ على رونقها، ويسردها الغالبيّة، لتلّخص عبرًا ودورسًا عدّة من مضامينها.

انخفاض عدد المراكز الثقافية..

وَحسب آخر إحصائية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، في عام 2018م بلَغ عدد المراكز الثقافية الفلسطينيّة 597 مركزًا، فيما وُجد 625 مركزًا ثقافيًا في العام 2017م، أي انخفض العدد بمعدّل 28 مركزًا. كما انخفض عدد المشاركين في الأنشطة الثقافية، حيث بلغ عددهم في عام 2018م حوالي 462 ألف مشارك، وحوالي 515 ألف مشارك عام م2017.

معدّل الانخفاض والمشاركة الحقيقية في الأنشطة الثقافية، يعود لأسباب عدّة منها: اهتمام فئة محدّدة بالأنشطة الثقافية، وعدم ابتكار أساليب حديثة من شأنها جذب أكبر عدد من المشاركين، إضافة لاقتصار الأنشطة على مناطق جغرافية وَعرضها في أوقات زمنية متأخرة تَحول دون مقدرة الكثير على الوصول، إضافة إلى شبكة الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي التي أدمن جزء كبير من المواطنين عليها، وفضّلوا مشاهدة فيلم أو مسلسل من خلالها في منازلهم، على المشاركة في الأنشطة الثقافية.

طرق الحفاظ على الحكاية…

الحكاية الشعبية، جزء من الأنشطة الثقافية التي ينبغي علينا الحفاظ عليها بِطرق مختلفة، سواءً من خلال توثيقها في الكتب والمراجع المختلفة، أو تخصيص فترات زمنية وأماكن أكثر لِعرضها بأساليب شيقة كما يفعل الحكواتية المنتشرون في فلسطين، وعدم اقتصار ذلك على معارض التراث فقط.

وَيقع على عاتق المدارس الفلسطينية، الاهتمام بالحكاية الشعبية من خلال تخصيص حصص صفيّة للطلبة لسردها لهم، أو عرضها من خلال الإذاعات الصباحيّة، أو استضافة الحكواتيّة لتعريف الطلبة به، وسرد حكايات لهم.

أما الجامعات الفلسطينية فَيبرز دورهم بِشكل أكبر في الحفاظ عليها، من خلال تسليط الضوء عليها في المساقات الجامعية التي تخصّ الثقافة العامة، وإدراجها في الأنشطة اللامنهجيّة التي تقام بِىشكل دوري في الجامعات، واستضافة الحكواتيّة أيضًا، ولا بأس من تخصيص كلية الإعلام موضوع “الحكاية الشعبية” من خلال المساقات العملية التي تخصّ إعداد البرامج وإنتاج الأفلام الوثائقية وغيرها الكثير.

فيما يقع على وسائل الإعلام بأشكالها كافة، تخصيص برامج تلفزيونية خاصة للحكواتيّة، تستضيفهم بها من خلال لقاءات خاصة، أو تتجول في الأماكن التي ينشرون بها حكاياتهم، وتُعرّف المجتمع الفلسطيني عليهم بشكلٍ أفضل، إضافة لتخصيصها صفحات خاصة على الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعي كافة لعرض أسماء أهمّ الحكواتية في فلسطين، وإنجازاتهم، إضافة لتوثيق سردهم للحكايات الشعبية وعرضها في فيديوهات لنشرِها لاحقًا بالأشكال المُتاحة.

في السياق ذاته، يقع على وزارة الثقافة الاهتمام بموضوع “الحكاية الشعبية” بشكلٍ أفضل، سواء أكان ذلك من خلال الندوات والمحاضرات الدورية، ونشرها لمطبوعات ومجلات خاصة حولها، أو عقد عدة زيارات لمختلف المؤسسات للحفاظ على هذه الثقافة وتعريف المجتمع الفلسطيني بها، وطرح مسابقات عدّة لجذب أكبر عدد حول الاهتمام والحفاظ عليها.

أمّا دور كلّ منّا في أماكن وجوده، هو الحفاظ على كلّ الأمور التي تبرز الثقافة الفلسطينية بأشكالها المتعددة، وَتحافظ على الموروث الفلسطيني من الاندثار أو الضياع أو السرقة، ليكون لدينا جيل واعٍ بِماضيه، يَعمل من أجل حاضره ويخطّط لمستقبله، ويستطيع الدفاع بقناعة عن هذه الثقافة. وَتبقى حكاية (الشاطر حسن، وَجبينة) وغيرها، تُروى على لسان الجدّات لِتتوارث من جيل لآخر.

المصادر والمراجع:

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.