الكثير منا يتساءل، من هو المعلم الناجح، وما الأعمال التي يجب أن يقوم بها لكي يسمى معلما ناجحا؟ هذا السؤال بدأ يتردد على شفاه الكثير من الآباء والأمهات، والمربين والمدراء، والموظفين والطلاب، وحتى المعلمين أنفسهم وخاصة المبتدئين، فهم يتساءلون باستمرار، متى نكون معلمين ناجحين، وماذا علينا أن نفعل لكي نكون كذلك، وما المؤهلات التي يجب أن نمتلكها لكي ننجح في تدريسنا، وما الأخلاق التي علينا أن نتحلى بها لكي نقوم بمهمتنا على خير ما يرام ؟
وبصفتي مربية أعمل في مجال التربية والتعليم وتأهيل المعلم وتدريبه منذ أمد بعيد، وبصفتي باحثة لها العديد من الدراسات والأبحاث والكتب في هذا المجال، يمكنني القول أن المعلم الناجح هو الذي تتوفر فيها صفات كثيرة ومتعددة، منها ما يتعلق بتأهيله الأكاديمي وتخصصه، ومنها ما يتعلق بتأهيله التربوي ومسلكه، ومنها ما يتعلق بشخصيته ومبادئه وعقيدته. ولعل أهم هذه الصفات أن يكون المعلم ـ وقبل كل شيء ـ مؤمنا برسالته، مكرسا نفسه لتأديتها، عاملا على تحقيقها، مضحينا من أجلها. وعليه ثانيا أن يكون منتميا لشعبه ووطنه واضعا نصب عينيه العمل على خدمة طلبته وتعليمهم وتربيتهم التربية الصحيحة، بحيث يجعل منهم مواطنين صالحين متعلمين منتمين لهويتهم ودينهم ووطنهم. وعليه ثالثا أن يكون مؤهلا علميا في أحد المواد الأكاديمية كالفيزياء، والرياضيات، والتاريخ، والجغرافيا، والدين، والتكنولوجيا، واللغة العربية، واللغة الإنجليزية، إلى آخره من التخصصات التي تشكل مواضيع المناهج الدراسية. علاوة على أنه يجب أن يكون مؤهلا مسلكيا وتربويا، ومدربا على عملية تصميم الدروس وكيفية وضع المذكرات اليومية، وملما بأساليب التدريس الحديثة وكيفية تنفيذها على أرض الواقع، وعارفا بأساليب التقويم وكيفية وضع الاختبارات اتي تقيس تحصيل الطالب بطريقة صحيحة وموضوعية. والأهم من هذا وذاك، أن يكون قادرا على تحويل المدخلات السلوكية المبتغاة إلى نتائج ملموسة كما خطط لها. أي أن يكون قادرا على خلق جيل متعلم مفكر ناقد ماهر يطبق ما تعلمه على أرض الواقع ومستفيدا منه في حياته، جيل قادر على التعامل مع المشكلات وإدارة المواقف الصعبة والأزمات، جيل يمتاز بشخصية قوية سواء أكانت عقلية بحيث يكون متمكنا من العلم الذي درسه، أو إجتماعية بحيث يكون قادرا على التعامل مع الآخرين بتقدير وتعاون واحترام، أو ثقافية بحيث يكون ملما بالمعارف المختلفة ومواكبا لآخر ما يستجد من علم ومعرفة ومعلومات، جيلا معتدا بهويته، محافظا على دينه وعاداته وتقاليده دون تعصب أو إسراف، أو ضيق تفكير، أو قتل قدرات.
والمعلم الناجح هو الذي يستطيع أن ينقل طلبته من مرحلة إلى مرحلة أعلى منها، ومن نضج إلى نضج أكبر منه، ومن علم إلى علم أغزر منه. معلم يستطيع أن يحوَل معلومات المنهاج إلى سلوكات وأفعال تظهر على الطلبة في مختلف جوانب شخصيتهم العقلية والاجتماعية والثقافية والصحية البدنية والثقافية.
الدراسات المتعلقة بتأهيل المعلم
ومع أن الدراسات المتعلقة بتأهيل المعلم وتدريبه تقَر بأن المعلم هو فارس العملية التعليمة وعليه تقع مسؤولية نجاحه أو فشله، إلا أن توفير الظروف المناسبة لإنجاحه يعد عاملا مهما وقويا، كأن نوفر له الإدارة الديمقراطية العادلة المؤهلة الواسعة الأفق البعيدة النظر ، وأن نوفر له المناخ النفسي المريح، فلا ملاحقة ولا مضايقات، ولا تجسس ولا إهانات، ولا ظلم ولا غبن ولا مثبطات، إذ أن هذين العاملين المتعلقين بالإدارة الديمقراطية، والمناخ النفسي المريح للمدرسة هما اللذان يساعدان المعلم أن يكون ناجحا في عمله، محققا للأهداف التعليمية والتربوية التي وظف من أجلها.
ولا ننسى أن الناحية المادية مهمة في هذا المجال، فالمعلم الذي يعمل ضمن معطيات مادية مريحة كالمعاش المناسب، والسكن المناسب، والتأمين الصحي، والضمان الاجتماعي، وتخفيض الأقساط الجامعية لأبنائه في الجامعات، كلها تساعد على انتمائه لوظيفته، وإخلاصه في عمله، ونجاحه في مهنته، ومن ثم تساعده على إعطاء أحسن ما عنده في خدمة طلبته بحيث يجعل منهم مواطنين صالحين قادرين على خدمة مجتمعهم ووطنهم في المستقبل.
ورغم أهمية هذه العوامل الخارجية في إنجاح المعلم، إلا أن العوامل المتعلقة بالمعلم نفسه تظل هي الأهم. فالمعلم الناجح هو الذي يحب مهنته، ويتحلى بروح المسؤولية اتجاه وظيفته، وهو الذي يحب طلبته ويجعل من نفسه أنموذجا صالحا لهم، يتفهم ظروفهم، ويعمل على إرشادهم، ويحل مشاكلهم، ويتفاعل معهم، فيجعلهم يقبلون عليه، ويفهمون مادته، ويستفيدون من علمه، ويطبقونه في حياتهم. والمعلم الناجح هو الذي يتخطى الصعاب مهما تراكمت، ويحل المشاكل مهما تفاقمت، ديدنه التسامح، وشعاره الإخلاص، ومبدأه الإنتماء لشعبه ووطنه، إيمانا منه برسالته التعليمية السامية، ووظيفته الحساسة في خلق الأجيال المتعلمة المدربة الواعية.
وهل هناك أسمى من رسالة التعليم التي تضاهي رسالة الأنبياء، وهل هناك أسمى من هذه المهنة التي تعمل على خلق الأجيال وبناء الأوطان؟ لا أظن. إذن، فلنجعل من المعلم معلما ناجحا، ولنوفر له كل الظروف المناسبة، وليجعل هو من نفسه أيضا معلما ناجحا مؤمنا برسالته متخطيا للصعاب، ومتحملا صبورا مهما اختبر من إحباطات ومنغصات، وذلك حتى يذكره التاريخ والأجيال على مدى الدهور والأزمان.
كاتبة وأديبة، ومحاضرة في قسم أساليب التدريس والدراسات العليا في كلية التربية/ جامعة النجاح الوطنية