هناك الكثير من الناس أصبحت تتذمر من الإنترنت وتشكوا من سوء استخدامه، نظرا لما يحتويه من معلومات ضارة، ومشاهد مشينة، وصور فاضحة، قد تؤذي بمشاعر الإنسان وأخلاقه، وتؤثر في عقله وطريقة تفكيره، ومن ثم تحييده عن الصراط المستقيم التي أرادها الله لعباده المؤمنين الصالحين. ناهيك عما يسببه الإدمان على الإنترنت من علل في صحة الفرد الجسمية وعلاقاته الاجتماعية، كضعف في النظر، وديسك في الرقبة والظهر، وإشعاعات سرطانية، وسكتة قلبية، وضعف في العلاقات الاجتماعية. ناهيك عما يسببه عن خربشة الفكر بمعلومات متناقضة وغير صحيحة وسطحية . كل هذا من شأنه أن يستنزف وقت الإنسان وقوته وأعصابه وصرف طاقته في أشياء آنية لا طائل منها سرعان ما تذوب وتتلاشى مع تلاشي الصفحة التي حملتها، وتتطاير حال إغلاق الإنترنت. إلا أن الأكثر سوءا هي تلك المعلومات الخاطئة المغرضة، والدعاية المضللة، والصور الفاضحة الهابطة، والمشاهد المفبركة، مما يجعل الفرد يحتار أيهما يختار وأيهما يهمل، وأيهما يصدق وأيهما يكذب، وأيهما يعتمد وأيهما لا يعتمد. لقد أصبح الواحد منا يفتح الإنترنت ليجد فيه المعلومة المفيدة إلى جانب المعلومة الضارة، والسلوك الحسن إلى جانب السلوك المنحرف، والكلمة الواعظة الهادية إلى جانب الكلمة المدمرة، والممارسات الحميدة إلى جانب الممارسات اللاأخلاقية المشينة. علاوة على أن المستخدم لشبكة الإنترنت فد يفاجأ بضخامة المعلومات التي يستقبلها وتنوعها وتعددها وسرعة انتشارها التي تعصف به وبدماغه عصفا وتقلبها مما يجعله مشوش التفكير، حائرا مترددا بأيهما يبدأ، وأيهما يختار، وبأيهما يثق وأيهما يعتمد. حقا لقد أصبحنا نعيش في عالم مفتوحة أبوابه على مصراعيها، يوجد فيه كل ما يخطر على بال من خير وشر، وصواب وخطأ، وشياطين وملائكة، وصلاح وطلاح، ومفيد وضار.
سؤال يطرح نفسه ؟
والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف لنا أن نعلَم أبناءنا أن يختاروا المعلومة المفيدة ويبتعدوا عن المعلومة الضارة، وكيف يجب أن نوجههم إلى ما يفيدهم وينميهم ويطورهم وننهاهم عن الذي يضرهم ويسوؤهم، وكيف علينا أن نجنبهم مشاهدة الصور والفيديوهات المنحرفة والمعلومات التافهة الساقطة؟ أي كيف لنا أن نحمي صغارنا وكبارنا وأبناءنا ورجالنا ونساءنا من مضار الإنترنت ونفاياته التي تعبث بالعقول والنفوس وخاصة الناشئة ذات اليمين وذات الشمال في الوقت الذي لا نستطيع أن نمنع الشركات المشرفة على الإنترنت بالتوقف عن بث مواقعها الهابطة، وتقييدها بما تنشر وما لا تنشر، وما الذي يناسبنا والذي لا يناسبنا، وما المواقع التي تضر بثقافتنا وتؤذينا ، لأن مثل هذا الطلب غير منطقي ولا معقول، وإن نجحنا في بعض الأمور فقد لا ينجح في كل الأمور، سيما وأننا نعيش في عصر مفتوح، حر، وغير مقيد، والمصالح هي التي تحكم البشر، والجشع المادي هو سيد الموقف. إذن، ما الحل وما العمل، وكيف نحمي أنفسنا من مضار الإنترنت، وكيف نحصّن أبناءنا من الأفكار الفاسدة، والمعلومات الخاطئة، والثقافة الهابطة، والدعاية المضللة، والأهداف المغرضة؟ أظن أن الحل يكمن في التربية والتعليم، واعتماد أحدث ما توصلت له الدراسات النفسية والتربوية في عصرنا الحاضر والمتعلقة بالوعي (Awareness)، وضبط النفس ( Controlling)، والتوجيه (Regulating). أي علينا أن نعلم أبناءنا ما الذي أن يختاروه من الإنترنت وما الذي يتجنبوه، ونعلمهم أن يميزوا بين الذي يفيدهم وبين الذي يضرهم، والذي يرفع من قيمتهم ونفسهم والذي يحط من إنسانيتهم وقدرهم. علينا أن نربيهم بأن يكونوا يقظين واعين لما يدور حولهم من خير وشر، وصالح وطالح، وأن يتحكموا تبعا لذلك بعقولهم ومشاعرهم وانفعالاتهم، حتى لا يجرهم الإنترنت إلى طريق الضلالة والغواية ويبعدهم عن طريق الخير والصلاح والهداية، فيخسروا بذلك أنفسهم، ويخسر بهم أيضا مجتمعهم وأمتهم. علينا أن نوضح لهم بأنه ليس كل ما ينشر على الإنترنت صحيحا أو غير مقصود، وإنما وراءه جهات مغرضة لها أهداف خسيسة وأطماع مادية من وراء ما تنشره من معلومات فاسدة وأفكار خادعة مضللة. ناهيك عن أن بعض المواقع تلجأ إلى الحرب النفسية عن طريق ما تبثه من فيديوهات وصور ومعلومات لللعب بمشاعر الناشئة، وتأجيج غرائزهم، والتأثير في عقولهم، والنيل من معنوياتهم، بل واستعمارهم بطريقة غير مباشرة عن طريق العبث بمبادئهم ومعتقداتهم، وتشكيكهم بدينهم ودنياهم، والأكثر عمل غسل دماغ لهم.
إن تربية الطفل وتعلميه أن يميز بين الحلال والحرام، والخير والشر، والحق والضلال، والخطأ والصواب ليس وليد الساعة وإنما موجود قدم الإنسانية منذ أن خلق الله الإنسان وأرسل الرسل والأنبياء، وذلك لتهديه إلى طريق الخير وتبعده عن طريق الشر، وكان أولها عندما غضب الله على إبليس لرفضه الامتثال السجود لآدم ، وعلى إثرها فقد توعد الشيطان آدم وذريته بالغواية والضلالة إلى يوم يبعثون. ومنذ ذلك الحين فقد أصبح الشر ملازما للخير، والشياطين ملازمة للملائكة، والرسل ملازمة للغاوين، والطالحين ملازمين للصالحين لقوله تعالى ” وهديناه النجدين”، أي طريق الخير وطريق الشر وهما طريقان متلازمان لا ينفصلان منذ أن حسد إبليس آدم ورفض أن يسجد له وتوعد بغوايته بأشكال وطرق مختلفة، وآخرها عن طريق الإنترنت والانفتاح غير المضبوط، والخيانة والعمالة والفساد. وبما أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ويعلم ما توسوس له نفسه بسبب الشيطان وغوايته، فقد أودع فيه عقلا مدركا، وبصيرة مبصرة، وأفئدة قادرة على التمييز بين نجد الخير ونجد الشر، وبين الهداية والضلالة إن أراد هو ذلك، بما تركه فيهم من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنتي”.
ولعل الحكمة من وراء تلازم الخير بالشر هي لكي يبتلى الإنسان في حياته والتمييز أيهما أحسن عملا. فلو أن الحياة خلت من الشر لما كان هناك فضل للإنسان باتباعه الخير، ولو أن الحياة اقتصرت على الشر لما كان عليه إثم باتباعه الشر، إلا أن وجود النقيضين معا هما المعيار الذي يعرف بهما المؤمن من الكافر، والعاقل من الجاهل، والصالح من الجاهل، فيكون جزاء الأول الجنة وجزاء الثاني النار.
وبما أن القاعدة تقول بأن الخير يرافقه الشر، والليل يتبع النهار، والموجب مرتبط بالسالب، فلماذا لا نمتثل لأمر الله ونختار طريق الخير في كل ناحية من نواحي حياتنا سواء أكان ذلك عن طريق عمل جيد، أو علم نافع، أو سلوك حسن، أو معلومة مفيدة، أو خلق قويم! ولماذا لا نعلم أبناءنا منذ الصغر التمسك بطريقة واعية غير تعصبية بقرآنهم الحكيم وسنة نبيهم الشريفة، وثقافتهم الإسلامية الحميدة، ليميزوا بها بين الخير والشر والنافع والضار! لم لا نربيهم على أن يجعلوا من ضميرهم الرقيب على تصرفاتهم وأخلاقهم، ولا يجعلوا الناس الآخرين التحكم بهم واللعب بعقولهم وبعواطفهم ذات اليمين وذات الشمال، سيما وأن المبادئ التربوية المتمثلة بالوعي، والتحكم، والضبط، والتوجيه، أضحت أهم مبادئ التربية الحديثة التي تعلم في المؤسسات وتربي الإنسان على مستوى العالم بأن يكون الموجه الأول لنفسه، وأن يكون ضميره هو الحكم على تصرفاته لقوله تعالى: ( كل نفس على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)، إذ أننا بمثل هذه التربية نستطيع أن نتغلب على مساوئ الإنترنت ومضاره الذي لا سيطرة لنا على أصحابه، ولكن بالتأكيد يظل لنا سيطرة على أنفسنا وعقولنا التي هي المسؤولة عن تصرفاتنا وطريقة حياتنا.
كاتبة وأديبة، ومحاضرة في قسم أساليب التدريس والدراسات العليا في كلية التربية/ جامعة النجاح الوطنية