مَن تأنّى نالَ ما تَمنّى

إن مجاهدة النفس والتمهل والتأني، تقي كثير من الأخطاء التي تقع على شفا حفرة أحد القرارات، فالتروي والسير على نهج الحياة بخطوات متريثة دلالة على رجاحة العقل ورزانته، وطمأنينة القلب وسلامته، فيحترز الإنسان من كيد الشيطان وتسلطه، حيث قال الرسول – صلى الله عليه وسلم- ( التأني من الله، والعجلة من الشيطان )، وهذا ما يعصم الإنسان من الوقوع في الزلات والهفوات والضلال ، فالتأني كله خير ومأثور المآب في الدنيا والآخرة، حيث قال ابن القيّم: ( إذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت، إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة، والرفق والأناة بينهما )، والمتأني المترفّق في جوانب معيشته، يظفر في مباراة الحياة، مهما كانت مستعصية المراس.

يعتبر التفكير العميق على مهل من ركائز النجاح في تقويم الشخصيات الإنسانية، حيث تعود عليهم بقرارات سليمة ممحصة لا تشوبها شائبة، وتقضي بضبط النفس البشرية، والتعامل بالحلم والأناة حتى في المواطن التي تستوجب السخط والتشدد والغضب، فكثير ممّن تجرع الانكسار ورأى أن التسليم والاستكانة أمر سهل، حتى أصبح مقتاداً نحو الأشواك، فاصطدم باليأس عاجلاً، لأن الإنسان العجول المتسرع لا يقوى على مواصلة المسير في وجه المكاره والمثبطات، ويظن كأنما الدنيا خُلقت له، والكون وُجد ليكون رهن إشارته، على عكس الإنسان المتمهل الذي يرسم صورة مشرقة عمّا سيكون عليه لاحقاً، فيسعى لتحقيق مراده بعزيمة هادفة وقوة نفسية تمنحه الثقة العظيمة والطاقة الروحية، والصبر والتأني المستميت لترتقي نفسه إلى المعالي، فالمتأني في أمور حياته يكون أكثر إداركاً وانتصاراً في معترك الحياة وكأنها وُجدت مخلصة له ومسخرة لصالحه، فلا يفزع من المنغصات، ولا تستعسر عليه حاجة.

إن مذهب الحياة متعرج  ومحفوف بالمنعطفات، وأكثر ما يهلك الإنسان هو الاستعجال، فهي صفة مذمومة تسابق القضاء، فإذا ركن بالله، اطمئن قلبه فيكل أمره كله لرب السموات والأرض، فيرضى ويسلم ولا  يستعجل، وتظهر عجلة الإنسان في سورة يونس، آية رقم ( 11 )، قال تعالى في كتابه الكريم: ( وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ )، وقال أيضاً في آية رقم ( 11 ) من سورة الإسراء: ( وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ َكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا )، فربما يستعجل ابن آدم في سؤال الله بما يضره، تماماً كما يستعجل في سؤال الخير، ولو عجّل الله واستجاب له ذلك، لهلك بدعائه، وشاء الله أن ترتكز فرائض الحياة على الارتقاء رويداً رويداً، ولا يكون ذلك إلا بالتأني والتريث.

وما قصة سيدنا موسى والخضر – عليهم السلام – إلا موعظة رائعة من الحكمة السماوية، بمنهج آسر، يفطّن الذهن، ويلفت العقل إلى ما في التريث والتأني والتدبر من مكسب ومنفعة، وأن الاستعجال والاندفاع يوقع صاحبه بالخسارة والضياع، فالخضر طالب سيدنا موسى بالصبر والحلم والأناة، والعَجُول كثيرُ الوقوع في الخطأ، قليلُ التقدير لعواقب الأمور، و قال أحد الحكماء: ( إياك والعجلة، فإنها تكنّى أم الندامة، لأن صاحبها يقول قبل أن يعلم ويجيب قبل أن يفهم، ويعزم قبل أن يفكر، ويحمد قبل أن يجرب ولن تصحب هذه الصفة أحدا إلا صحب الندامة وجانب السلامة )، ورحم الله قائلاً: ( لا تعجلنَّ فليس الرزق بالعجل، الرزق في اللوح مكتوب مع الأجل، فلو صبرنا لكان الرزق يطلبنا، لكنه خُلق الإنسان من عجل )، فلله في خلقه سنن لا تتبدل، وأن لكل ثمرة أواناً تنضج فيه، فيحسن قطافها، فاصبر على رزقك، فاستجابة الخير في زمنه حكمة خافية لا يعلمها إلا الله، ويجري حكمه بحساب وقدر، والصبر والتأني بالدعاء، وكما قلت سابقاً لا دَاعي للاستعجالِ، فالصبرُ والتريث شيءٌ جميل، فلا تحزن ولا تيأس، فما زال هناكَ وَقتٌ للبَقاء، وكلُ شيءٍ نرغبهُ سِيأتي، وسوفَ يكونُ بمشيئة الله تعالى.

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.