لا مثالية في الحياة…!‏

ما أكاد أمسك بطير المثالية الجميل حتى أراه وقد تملص من بين يدي ليعود طائرا إلى  ‏السماء مغردا ناظرا إلي نظرة استهزاء قائلا من المستحيل أن تبقيني بين يديك لمدة طويلة، وإن ‏فعلت فسرعان ما أنفض جناحي لأطير ثانية إلى حيث مكاني في السماء، إلى حيث سكني وراحة ‏بالي، وما نزولي إليكم أهل الكرة الأرضية بين الحين والآخر إلا لأذكركم بأن الحياة ليست كلها ‏منغصات وإنما يوجد فيها بعضا من صفاتي المثالية، فيها الفن والجمال والأدب والأخلاق، فيها ‏الوضع المثالي الذي يريح النفس ويسعد البال، ولكن هذا يحتاج إلى جهاد وعمل وسعي باستمرار. ‏          

نظرت وتفكرت فأقريت بالحقيقة التي تقول أن الإنسان لا يستطيع أن يكون مثاليا في كل شيء، ‏ولا يستطيع أن يعيش حياته دائما بمثالية، وهذا راجع إلى النقص الموجود فيه، إن لم يكن راجعا ‏إلى النقص عند الآخرين والطبيعة من حوله.  والإنسان أيضا لا يستطيع أن يقوّم اعوجاج ‏الآخرين باستمرار، ولا يستطيع أن يغير من عقولهم وأفكارهم التي شبوا عليها، ولا يستطيع أن يبدل ‏في ذوقهم وأخلاقهم ومعتقداتهم ، وإن حاول فلم ينجح، وإن نجح فلم يدم نجاحه فترة طويلة، وإن ‏دام فسيقابل بالتململ والرفض والتذمر، علاوة أن ما يراه الفرد صائبا قد يراه غيره خاطئا، وما يراه ‏الآخرون مثاليا قد يراه البعض وضعا مزعجا مملا، بل كيف ينشد المثالية وكل شيء حوله يتغير ‏ويتبدل، وكيف يطلب المثالية وكل شيء معرض للموت والاندثار؟  فانظر مثلا إلى الحقل تحرثه ‏وتزرعه وترشه بالمبيدات حتى إذا ما أتى أكله غزته جراثيم أتت عليه وأهلكته وجعلته في خبر ‏كان.  وانظر إلى الدار تبنيها وتتفنن في بناياتها حتى إذا ما استقامت على عمدانها وسكنتها أتت ‏عليها عوامل الطبيعة من زلازل وحروب وبركان حتى تركتها كالرميم ليست الدار التي بنيتها، ولا ‏الجمال الذي أسبغته عليها.  وانظر أيضا إلى الصديق تصادقه، والحبيب تدانيه وتقربه، فما أن ‏يطرأ سوء فهم أو خلاف بينكما حتى يصبح الصديق غريبا والحبيب عدوا كأنه لم يعرفك ولم ‏تعرفه، ولم تنسج حوله الأحلام الظلال، ولم تقض معه الوقت الجميل كالأحلام.  ‏

وقس على ذلك البلد التي تعيش فيها، والمجتمع الذي تنتمي له، والرسل التي بعثت والرسالات ‏السماوية التي أنزلت والعلاقات الاجتماعية التي إقيمت، والثقافة التي  فترى الأجداد تعبت في ‏العمل على بنائه والسعي في ترابطه وتوطيد العلاقات الاجتماعية بين أفراده وعائلاته وفئاته، ‏وتشييد بناياته وعماراته ودوره وشركاته ومصانعه، وما هي إلا سنوات أو عقود حتى ترى المجتمع ‏غير المجتمع الذي كان في الأحلام، ولا علاقاته الاجتماعية التي كانت أيام زمان ولا الرحمة التي ‏كان يتسم بها أو المحبة التي كان يتغنى بها وما التغيير الذي حدث إلا بفعل مسؤول ظالم أو ‏إنسان فاسد أو حاكم مريض جاهل، أو استعمار غاشم.  وحتى المرء نفسه فهو يتعب على نفسه ‏يهذبها ويحاول أن يرتقي بها تارة بالدين والإيمان وطورا بالعلم والفن والجمال فلا يراها إلا وانحرفت ‏عن مسارها بفعل وجودها في بيئة ملوثة او تعاملها مع إنسان معطوب يفتقر إلى الأدب والأخلاق ‏فتخرجها عن طورها أو يفقدها بعض جمالها فتضطر عندئذ أن تتعامل معه بطريقة ليس الطريقة ‏التي اعتادت عليها وقضت السنوات الطوال وهي تتخلق بها وتمارسها.  فكل شيء يتغير ولا يبقى ‏على حال،  وعندها قد يقف المرء مذهولا، يتساءل أين المثالية التي كنت أطمح لها وأين الحياة ‏الجميلة التي كنا نعيش فيها، بل أين الصواب وأين الخطأ، وأين ما عمله الإنسان وتعب من أجله، ‏وأين ما جاهدت الرسل لبثه بين البشر وتجسيد رسالة الله على الأرض، وأين ما بذل له الإنسان ‏من ماله وروحه وعقله وهو يحاول أن يجسد صورة مثالية سواء لنفسه أو لغيره ، بل كيف نطلب ‏وضعا مثاليا وعوامل الهدم من حولنا كثيرة ومتنوعة، سواء تمثلت في أفراد منحرفين، أو فاسدين ‏ظالمين،  أو شياطين ماردين ، أو جشعين طماعين ، أو كافرين مارقين.  ناهيك عن الحروب التي ‏لا تبقي ولا تذر، وعوامل الطبيعة من زلازل وأمطار وبراكين وعواصف وأوبئة وأمراض، كل ‏العوامل بما فيها الموت تمنع من الوصول بالإنسان إلى وضع مثالي.‏

ناهيك عن أن الإنسان نفسه يتغير من فترة إلى أخرى، ويموت ويأتي غيره.  إذن، وفي ظل مثل ‏هذه الحقائق، فمن الأفضل للإنسان أن يخفض من سقف توقعاته ولا يطمح لوضع المثالي في كل ‏الأوقات، وعليه أن يعيش حاضره ويكون موضوعيا أقرب إلى الواقع الأرضي منه إلى السماء ‏العلوي.   وعليه أن يعرف أيضا أن المثالية حالة مؤقتة سرعان ما تتلاشى وتندثر، وما كل ذلك ‏إلا لتجعل الإنسان يحلم باستمرار، وينهض ويعمل ويتعب ويعرق ويجد من أجل أن يحقق ما يحلم ‏به ويصل إلى الوضع المثالي الذي ينشده.  فالمثالية هي في السعي للوصول إليها وليست هي ‏في حد ذاتها، هي في الطريق التي نسلكها لنحصل عليها وليست هي الهدف النهائي في حد ‏ذاتها.  ولعل الحكمة من عدم وجود وضع مثالي في الحياة هو أن نظل نحلم ونأمل بالمثالية، ‏ونظل نفكر في الوصول إليها، والتي بالسعي نحوها نجد ذواتنا وندرك قيمتنا ويصبح لحياتنا قيمة ‏ومعنى، وذلك حتى نظل نسعى ونلهث وراء التطور والتقدم والرقي والسمو حتى لو كان عمر هذا ‏السمو والوضع المثالي قصيرا.‏

وبالخلاصة، نستطيع أن نقول أن المثالية هي وجهة نظر خاصة، فبعض الناس يراها في الصحة ‏والعافية، وآخر يراها في الراحة النفسية، وثالث يراها في الحياة الطبيعية التي يمارسها بمبادئه ‏ودينه وأخلاقه وهو راض عنها.  إذن فالوضع المثالي يظل نسبي، وهو يتغير بتغير الأفراد، ‏وبتغير الظروف والأحوال والزمان المكان، إلا أن الحلاوة فيه أنه يجعلنا دائما نطمح إليه ونسعى ‏للوصول إليه حتى لو عاش هذا الوضع لفترة قصيرة، فهو على الأقل أشعرنا بقيمتنا وعقلنا ‏وطموحنا وبأننا بشر نحلم ونطمح ونجد ونسعى داما نحو الأفضل.‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.