للصمت جمال وليس كمثله جمال، وله سمو وليس كمثله سمو. والصمت يعني التوقف عن الكلام والامتناع عن سماع أي كلام أو همس في لحظة معينة، في مكان معين؛ حتى لتشعر أنك انسخلت عن ذاتك وأصبحت روحك تحلق فوق البشر فوق الآدمية، وغدا المكان الذي أنت فيه كأنه معبد بوذي لا حركة فيه ولا همسة. ففي مثل هذه اللحظات الصامتة الناطقة في آن تنطلق الروح إلى فضاءات سماوية، والنفس تحدث نفسها بحديث كأنه حديث الملائكة، فتشعر أن السكينة تغشاها، والهدوء والسلام ينتشر على كل ذرة من ذرات كيانها، فتصبح الروح أكثر سحرا ونورانية، والعقل أكثر قوة وعقلانية، والضمير أكثر صدقا وإحساسا، والنفس أكثر جمالا شفافية، فعندها ترى ما لم تكن تراه، وتدرك ما لم تكن تدركه وهي في المواقف العادية التي يعلوها اللغط والثرثرة والصخب والحركة والضجيج.
وما أجمل من الصمت عندما يقترن بجمال المكان ونظافته ورقي الإنسان وقوة عقله فتصبح له لغة أشد وأفصح من لغة البيان، ومشاعر وإحساسات أرق وأقوى من مشاعر الإنسان، عندها ستشعر كأنك فرد وحيد منعزل عن الناس رغم وجود الناس من حولك، تسبح بحمد ربك وكأنك في محراب تصلي بخشوع أمام الروح الكلية المقدسة لتعانقها وتعانقك، وتبثها حديثك وهي تكلمك. ففي مثل هذه اللحظات النادرات يشعر الفرد بإنسانيته تتكثف، وروحه أصفى وأنقى، ونفسه يغشاها الهدوء والسكينة.
والصمت هو اللغة الناطقة التي تجمع بينك وبين الناس في لحظة معينة دون أن تحتاج إلى حروف وكلمات، وجمل وعبارات. وما أجمله عندما يكون سيد الموقف وأنت في أحضان الطبيعة تتأملها، أو واقف على شاطئ بحر متلاطم الأمواج تغمض عينيك وتتنفس بعمق، أو عندما تتفيئ ظل شجرة واضعا ذراعيك تحت رأسك تتأمل السماء بتفكر وعمق، أو عندما تكون في معبد تناجي ربك وتدعوه بهيبة وخشوع.
والصمت والهدوء والسكينة يظل من صفة الشعوب الراقية والبلاد المتقدمة التي تحقق ما تريد عن طريق الصمت والعمل في آن، حيث يكون الصمت سيد الموقف لا للغوغائية والجعجعة، والعمل لا الفشر والتشدق بفارغ الكلام. ولهذا فالمرء يستطيع أن يميز بين البلاد الراقية والبلاد المتأخرة عن طريق ملاحظة نمط حياتهم، عندها سيتجد أن الصمت والهدوء من صفات البلاد الراقية، والغوغائية والضجيج من صفات البلاد المتأخرة؛ وقلة الكلام مع العمل من صفات الشعوب الراقية، وكثرة الكلام والضجيج مع قلة العمل من صفات الشعوب المتأخرة. فالمكان في البلاد الراقية هو الذي يتكلم ولكن بهدوء وسكون وصمت، في حين أن اللسان في البلاد المتأخرة هو الذي يتكلم ولكن بصراخ وصخب.
ففي لحظات الصمت يغيب الزمن ويتلاشى الشعور بالمحيط ويصبح التأمل الروحي سيد الموقف والكشف النواراني هو الذي يغشى الروح، وكلاهما يؤديان إلى المعرفة الحقيقية، معرفة الله.
![أ.د. أفنان دروزة](https://sawa.najah.edu/wp-content/uploads/2018/02/افنان_دروزة-150x150.jpg)
كاتبة وأديبة، ومحاضرة في قسم أساليب التدريس والدراسات العليا في كلية التربية/ جامعة النجاح الوطنية