متى يحدث التعلم !

قد يتساءل المرء، ما معنى التعلم، ومتى يحدث، ومتى نعتبر الإنسان متعلما وكيف نحكم على ذلك! أسئلة ‏كثيرة حيرت الفلاسفة وعلماء النفس والتربية والاجتماع والانثروبولوجيا منذ آلاف السنين ولم يجدوا لها حلا شافيا إلى ‏الآن، ومع هذا فلم يهنوا ولم ييأسوا وظلوا يقومون بالدراسات والأبحاث المتواصلة وملاحظة سلوك الإنسان وأقواله ‏وأفعاله في بيئات مختلفة لسنوات طويلة، على أمل الوصول إلى نظرية موحدة تفسر التعلم وتحدد عناصره وطريقة ‏قياسه وتقويمه، وتفهم سلوك الإنسان ونفسيته وتحل مشاكله، ومن ثم مساعدة المعلمين على التعليم وفق الطريقة ‏التي يتعلم بها الطالب بطريقة علمية مدروسة ومضبوطة من أجل تحقيق أهداف العملية التعليمية التعلمية المنشودة.  ‏من هنا فقد نشأ كنتيجة لهذه الدراسات ما يعرف باسم علم التعلم الذي يبحث في نظريات التعلم وسلوك الطالب، ‏وعلم التعليم الذي يبحث في نظريات التعليم وسلوك المعلم.‏

لقد وضع التربويون تعريفات مختلفة للتعلم انطلقت من مدارس تربوية مختلفة، فالمدرسة السلوكية، على ‏سبيل المثال، ترى التعلم بأنه عبارة عن تغير إيجابي دائم نسبيا في سلوك الفرد ويقوى عن طريق الممارسة التدريب ‏المقترن بالتعزيز إلى أن يصبح هذا السلوك جزءا من تصرفات الفرد وعاداته وأخلاقه.   بمعنى آخر، فالمدرسة ‏السلوكية لا تعتبر الإنسان متعلما إلا إذا اكتسب سلوكا إيجابيا مرغوبا به وأصبح هذا السلوك جزءا من نفسه ‏وأخلاقياته يمارسه على مدى حياته.  فمثلا،  إذا تعلم الإنسان صنعة معينة وأصبح يمارسها بشكل جيد نقول أنه ‏تعلم، وإن اكتسب خلقا حميدا وأصبح هذا الخلق صفة من صفاته، نقول أنه تعلم، وإذا عدل في انفعال من انفعالاته ‏وأصبح أكثر صبرا وروية وتحملا نقول أنه تعلم، وإذا اكتسب معرفة جديدة أكسبته ثقافة وعلما نقول أنه تعلم، وهكذا ‏دواليك، فكلما كثرت السلوكات الايجابية التي يكتسبها الفرد في حياته وأصبح يمارسها كجزء من نفسه نقول أنه تعلم.‏

في حين ينظر علماء نفس الإدراك إلى التعلم بأنه عبارة عن تفاعل كيماوي يحدث في دماغ الإنسان نتيجة ‏إرسال الدماغ نبضات كهربائية تنتقل بين المسالك والعقد العصبية المنتشرة في جهازه العصبي.  هذه العقد العصبية ‏تضاء وتصبح نشطة عندما ينخرط الإنسان في مهام تعلمية ونشاطات عملية.  وبناء على هذا المفهوم، يرى علماء ‏نفس الإدراك بأن التعلم هو عبارة عن عملية تنسيق وبرمجة للمعلومات التي يستقبلها الإنسان عن طريق حواسه ‏الخمسة، والقيام بتخيلها وإدراكها وتحليلها وتفسيرها وتقويمها وتبويبها في فئات، ثم خزنها في الذاكرة طويلة الأمد ‏وذلك من أجل استرجاعها عند الحاجة.  وكلما كان الإنسان ذكيا من وجهة نظرهم أصبح أقدر على تطوير طرق ‏فعالة لخزن المعلومات واسترجاعها وإيجاد متسع لها في ذاكرته.  وبهذا التفسير فهم يعرفون التعلم بأنه قدرة الفرد ‏على التذكر والاسترجاع ، فكلما كان الإنسان متعلما كانت ذاكرته أقوى على حفظ المعلومات واسترجاعها، وبناء ‏على ذلك، فلا يعتبر الإنسان متعلما إلا إذا استخدم عقله وعالج المعلومات التي يتعلمها بطريقة صحيحة وقام ‏بخزنها في ذاكرته بطريقة تساعده على استرجاعها وقت الحاجة.‏

إلا أن بعض علماء نفس الإدراك من يصف التعلم بأنه القدرة على التفكير النقدي أكثر من أن يكون القدرة ‏على خزن المعلومات وإعادة استرجاعها فقط.  والمقصود بالتفكير النقدي هو القدرة على التعليل وإصدار الحكم على ‏ما تتضمنه الكلمات والجمل والسطور من معاني وأفكار بشكل منطقي موضوعي بعيدا عن التحيز الشخصي ‏والهوى، وذلك بالاستناد إلى معايير موضوعية وقوانين صادقة تصل بالشخص المتعلم إلى الحكم الصحيح ومن ثم ‏اتخاذ القرار الصحيح والإجراء والتنفيذ الصحيح.  وبهذا المفهوم فلا يعتبر الإنسان متعلما من وجهة نظرهم إلا إذا قرأ ‏ما وراء السطور بشكل صحيح وفسر بطريقة منطقية ولم يكتف بالمعاني والتفسيرات السطحية للأشياء التي يراها أو ‏يسمعها أو يقرأها.  إنه لا يعتبر متعلما إلا إذا فهم واستوعب واستنتج وحلل وفسر وقيم المعلومات أكثر مما خزن من ‏معلومات كمية، فالمعلومات تقاس بنوعيتها وليس بكميتها.  من هنا نرى أن عملية التعليم بمفهومها الحديث تركز ‏على مساعدة المتعلم الربط بين الأشياء المتعلمة وإدراك العلاقة المشتركة والمختلفة.   والتعليم هو عملية بناء طريقة ‏تفكير إيجابية لدى الطالب أكثر منه تركيز على خزن معلومات نظرية، إنها مساعدة المتعلم على إدراك الشيء من ‏خلال مضمونه والإطار الذي يقع فيه وليس إدراكه بشكل جزئي منعزل عنه، إنها عملية الربط بين المعلومات ‏والخبرات السابقة بالمعلومات الجديدة، إذ لا تعلم دون استثارة الخبرات السابقة للموضوع الجديد المتعلم. ‏

أما علماء الاجتماع فيرون التعلم بأنه عبارة عما يشترك الفرد في معناه ومفهومه مع الآخرين لأن الفرد لا ‏يستطيع وحده أن يدرك معاني الأشياء دون إدراك الجماعة لها.   بمعنى آخر،  فالتعلم بحاجة إلى إطار مرجعي ‏اجتماعي وثقافة معينة، ومعايير وأخلاق وعادات معينة لكي يفسر الفرد الأشياء التي يتعلمها.  من هنا، فإن مفاهيم ‏الأخلاق تختلف من مجتمع إلى آخر،  وتختلف طريقة التفكير من مجتمع إلى آخر وذلك لاختلاف معايير المجتمع ‏وثقافته وقوانينه ومعاييره.    فالتعلم من وجهة نظر علماء الاجتماع هو عملية اكتساب الثقافة التي ينتمي لها الفرد، ‏واكتساب أخلاق المجتمع الذي يعيش فيه، وتقمص عاداته وتقاليده وقوانينه وهويته وطريقة حياته.  وبما أن هناك ‏فروقا فردية بين الأفراد في المجتمع الواحد، فنرى أيضا أن لكل فرد ثقافته الخاصة ومعرفته الخاصة وعلمه الخاص ‏به بالإضافة إلى ثقافة المجتمع، فالتعلم يعرف أحيانا بأنه ثقافة الفرد الخاصة.‏

أما علماء نفس البيئة فيرون التعلم بأنه نتيجة لإدراك متبادل بين الفرد وبيئته، إنه إدراك لما تقدمه البيئة له ‏وما يقدمه لها بالمقابل. ولذا فإن قدرة الفرد على إدراك البيئة والتفاعل معها وما يحدثه فيها من تغييرات إيجابية ما ‏هو إلاَ انعكاس لتعلمه.‏

وأيا كانت مفاهيم التعلم فالكل يدرك أن التعلم بحاجة إلى تفكير وتدبر وإمعان في الشيء المتعلم، وهو ‏بحاجة إلى نشاط وحركة وعمل دائب، وبحاجة إلى حب ورغبة وتفاعل مع الشيء المتعلم، بحاجة إلى بذل الجهد ‏والوقت والطاقة في الشيء المتعلم، وبحاجة لأن يكون الإنسان ايجابيا نشطا متحمسا محبا للتعلم، وبحاجة لأن ‏يعكس ما يتعلمه على الآخرين ويستفيد منه ويفيد الآخرين.‏

ومن ناحيتي فإنني أرى، ومن خلال خبرتي في علم التعلم والتعليم، أن التعلم لا يحكم عليه إلا من خلال:‏

  1. ‏إذا اكتسب الإنسان شيئا جديدا مفيدا ايجابيا سواء كان هذا الشيء سلوكا حسنا، أو تصرفا جيدا، أو خلقا حميدا، ‏أو اتجاها إيجابيا، أو معرفة أو معلومات أو مهارة مفيدة لم تكن موجودة عنده من قبل.‏
  2. ‏ إذا طبق الإنسان ما تعلمه من معرفة ومعلومات وما اكتسبه من أخلاق واتجاهات وسلوكات على أرض الواقع ‏فاستفاد منه وأفاد غيره بما يخدم الصالح العام والآخرين.   بمعنى آخر،  فالمتعلم لا يعتبر متعلما إلا إذا ظهر علمه ‏وعم وشاع وذاع واستفاد منه الآخرون.‏
  3. ‏‏إذا عدل الإنسان سلوكا أو تصرفا أو عادة أو خلقا أو اتجاها أو معرفة أو معلومات أو صنعة كانت موجودة ‏عنده ولم تكن متعلمة بالشكل الصحيح، أو لأنها أصبحت قديمة بحاجة إلى تعديل وتقويم وتطوير وتحسين.  أي أن ‏الإنسان لا يعتبر متعلما إلا إذا استفاد من أخطائه وعمل على تطوير نفسه ومحيطه نحو الأفضل.‏
  4. ‏إذا تخلص الإنسان من سلوك ضار أو خلق سيء أو اتجاه سلبي أو آراء هدامة أو عادة سيئة وكل ما من شأنه ‏أن يضر به ويسيء إليه.  بمعنى آخر، لا يصبح الإنسان متعلما إلا إذا تخلص من الأشياء التي تضره وساعد ‏الآخرين على التخلص مما يضرهم إذا طلب منه ذلك.‏

وأياً كان مفهوم التعلم فعلينا أن نعرف أن التعلم ليس شيئا ثابتا يستمر مدى الدهر، بل إنه مفهوم وسلوك ‏يتذبذب باختلاف الظروف سواء كانت هذه الظروف متعلقة بالإنسان وميوله ورغباته واتجاهاته وقدراته وعقله ‏وذكائه ونشاطه ونفسيته الخ، أو متعلقة بالبيئة الخارجية المحيطة به من جغرافية واجتماعية ودينية وسياسية ‏ومعلوماتية واقتصادية وسكانية الخ. ‏

‏وكلمة أخيرة أن الإنسان لا يكون متعلما ولا يحكم عليه بأنه متعلم إلا إذا انعكس علمه على نفسه ‏وسلوكاته وتصرفاته وأخلاقه ومجتمعه ووطنه والإنسانية جمعاء أينما ذهب وأينما حلً، ولا يمكن أن يكون هناك علم ‏بدون أخلاق ولا أخلاق بدون علم وتربية، وإلاَ يصبح العلم لا قيمة له ولا وزن ولا فائدة ولا يستحق ما بذل في ‏تحصيله من مال ووقت وجهد، إذ لا خير يرتجى من إنسان متعلم بدون أخلاق.‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.