عطاء المصري…سيزيف القرن

سيزيف من حيث وضع صخرته العظيمة عند آخر المنحدر، بعينين معتمتين كادت لو تخلقان حجران ‏أسودان، يطوف الناس حولهما يستجدون من العتمة الأمل، عطاءٌ أخير للعائلة الصغيرة، وآخر العطايا مسكها. ‏

ولادة الضوء في العيون الصغيرة رهن اتساعها، كلما يكبر الصغير، يتلاشى الضباب شيئا فشيئا، حتى يرى ‏ما حوله على هيئته، ما خلا نصا خارجا عن نسق الله في التكوين، خللا وراثيا جعل يدها عينا تدرك الأشياء ‏بمسها. ‏

‏” أمي أدركتني مبكرا”‏

عطاء المصري، التي ولدت في شباط 1999 لتكون ثالث أخويها وآخرهم، تعاني من ضعف في البصر ما ‏نسبته 90% نتيجة ندوب معتمة على شبكية العين، وعشاء ليلي وطول البصر، سنحت لي ببعض وقتها ‏عنوة، تركت كتابها المسجل على جهاز الحاسوب خاصتها، وجلست إلى جواري، عيناها ذهابا ومجيئا تجيب ‏السؤال قبل السؤال، وتسترسل ” كان عمري سنة ونصف، عندما لاحظت أمي ارتباكي إذا وقع شيئا من يدي، ‏وأبدأ أتحسس الأرض حتى استشعره وألتقطته، تكررت الحادثة، صارت أمي مثل البوصلة تحدد موقع ‏الشيء، أمامي أو خلفي أو عند قدمي، اختبرتني بكوم السكاكر، فإذا قربتها مني رأيتها، وإذا أبعدتها، ‏أتحسس”  ‏

شرعت والدة عطاء بأخذها إلى طبيب العيون بعد أن راودها شعور بأن الأمر أكبر من كونها طفلة غير قادرة ‏على التمييز، ولم تتسع مداركها بعد لأن تجد الشيء أمامها حالما تراه، ظلت تكذب نفسها حتى تيقنت، ‏وأخبرها أطباء العيون التي اصطحبت صغيرتها إليهم أنها تعاني من ضعف في الإبصار، نتيجة ندوبا معتمة ‏على شبكية العين، قد تكون عاملا وراثيا، وهي حالة بحاجة إلى تشخيص بروفيسور في طب العيون.‏

تقول أمل المصري والدة عطاء ” لم أغفو غطة طرف بعد أن قام الطبيب بتحويلها إلى مستشفى سان جون ‏في القدس، وبعد إجراء الفحوص اللازمة تبين أن حالة ابنتي تصنف ضمن الحالات الوراثية التي يقف العلم ‏حائرا أمامها، فلا جراحة ولا أملا في الشفاء إلا بتطور العلم حتى يتمكن من الوصول إلى أجزاء العين ‏الداخلية، والنظارة في حالة مثل تلك وقاية تحول دون تفاقمها لا أكثر”‏

الصغيرة لما أفاقت ذات يوم، ووجدت عند رأسها نظارة تستحيل الحياة بغيرها، وتقبلت وجودها بغير مقاومة ‏لما أحست بحاجة للزجاج على وجهها، يمكنها من العثور على دميتها إذا سقطت أرضا، وبحذر إذا شاركت ‏إخوتها الصغار اللعب والجري حفاظا على العينين الزجاجيتين، صارت منظومة الحياة مرتبة كما يلي، ‏صباحا ترتديها مساءً تضعها جانبا حتى تنام. ‏

‏”أمي إلى جانبي في المقعد الصغير” ‏

صار وقت الجلوس لتعلم الأبجدية، تبدو العائلة أكثر قلقا كلما راجعت عطاء طبيبها، ماذا بشأن الدراسة، إنه ‏من الصعب أن تتعامل مع السطور، وأن تضع القلم عند مساحة الورق، وأول حصاه تعثر بها الطَموح، عندما ‏قال الطبيب كلمته لأهلها ” ليس شرطاً أن يكون كل أبنائكم متعلمين ” ‏

دمعة على طرف الهدب لا يسمح لها بالنزول حتى تكمل الوالدة عبارة متقطعة بصوت مرتجف ” قلت ‏للطبيب يومها، ومن يدري لعلها تكون المتعلمة دون إخوتها، وفور أن صارت في الرابعة من العمر، أفسحت ‏لها مجالا إلى جانب أقارنها في روضة الأطفال، وسخرت جل الوقت لها، ولم أترك وسيلة تعليمية إلا وجربتها، ‏أمسكت في يدها إلى أن تعلمت رسم الحروف، علمتها القراءة باستخدام العدسة المكبرة، استخدمت أوراق ‏بحجم كبير وسبورة، جسّمت لها الحروف والأرقام حتى يتسنى لها أن تراهم ولو باللمس، كنت أجلس إلى ‏جوارها في المقعد معظم الوقت، وزرعت فيها حب التعلم”‏

تنفذت عطاء موقعا مرموقا في روضة الأطفال، واستعلت منصة الأذاعة، بكامل قواها تقف وتشدو وتقول ما ‏يعجز الصغار عن قوله في عمرها، واستمرت في الصعود أعلى ثم أعلى في المرحلة الإبتدائية، استقبلتها ‏مدرسة حكومية شأنها شأن المبصرين، رغم صعوبة القراءة والتمحيص في الكتاب المدرسي، إلا أن الطبيب ‏كان لا يقترح على أهلها أن تتعلم لغة بريل، حفاظا على بقايا النظر، وتمرينا للعين على الرؤية. ‏

‏”أرسم الأرقام في رأسي”‏

لاحظ أربابها منذ وقت مبكر قدرتها على  الحساب الذهني، دون استخدام أصابعها الصغيرة أو كتابة المسألة ‏على الورق، ترتب الأرقام في ذهنها، تشيح النظر إلى أعلى، فتعطيك الناتج، أمرا وضع عقول معلماتها في ‏أكفهن، عندما كانت تؤدي إمتحان الرياضيات شفويا، وتحصل  على الدرجة التامة، مثل حاسبة متنقلة، تساعد ‏العائلة في حساب أي شيء في غضون ثوانٍ. ‏

تقول ” منذ تعلمت الحساب وأنا أرسم الرقم في رأسي، مهما كانت منزلته، وأبدأ بحساب المنازل كل على ‏حده، أحيانا أبدأ الحساب من منتصف المسألة، من منزلة العشرات مثلا، ثم أضيف الباقي على المنزلة التي ‏تليها، ولا أتذكر أني أخطأت في إيجاد ناتج مسألة” ‏

من هنا أخذت تحنو محنى الفرع العلمي، ترتب أحلامها على أن تكون ذات يوم طبيبة عظام، هكذا أخبرت ‏طبيب العيون وهو يقوم بالفحص الدوري.‏

‏”الإعدادية…عين أمي”‏

ذهابا وإيابا، برفقة الأخوين، بينما كانت في الإبتدائية، كان لا حاجة لها بالتحديق في كل خطوة تطأها وصولا ‏إلى باحة المدرسة، كانت بأربعة عيون، أقدامها تطاوع أقدامهم، عن يمينها وعن يسارها حرسا، يبدوون ‏مخاوفها في مواجه الطريق البعيد بضوء خافت، أما بعد، كبر الصغار، وصار كلٌ يبحث عن مستقبله في ‏المدرسة وحده، عطاء، ترافقها ملائكة سخرتها أمها، تدعو وهي تلملم ضفائرها ألا يعترض طريقها قطة ولا ‏كلبا، وتضحك. ‏

وتضيف عطاء “بدأت أعتمد على نفسي أكثر بعد أن تركني إخوتي ليكمل كلٌ مشواره الدراسي في مدرسة ‏أخرى، وفي هذه المرحلة من العمر كان لزميلاتي ومعلماتي دورا في رحلتي العنيدة، كانت المعلمات تكلف ‏واحدة منهن لكتابة إجابتي في الامتحانات، ويتركوا لأمي على طرف الكتب ملاحظة بقائمة الواجبات البيتية”.‏

من طلوع الفجر، حتى عودة عطاء من المدرسة، تنجز الوالدة أعمال المنزل كافة، تتفرغ بشكل كامل بعدها، ‏للجلوس على الطاولة إلى جانب كوم الكتب، وتنكب العيون حتى المغيب، في سرد الكتاب على مسامعها دون ‏كلل ولا ملل، وفي نهاية العام الدراسي، تزف نبوءة التفوق وحصولها على المرتبة الأولى.‏

‏”الثانوية… المنعطف الأخير” ‏

‏”وقفت أمام القرار باختيار الفرع الذي سأدخل، والذي يحدد تخصصي الجامعي بعد النجاح، كان حلمي أن ‏أصير طبيبة عظام، كاد الأمر سهلا بالنسبة لي، لولا عجز العين عن القراءة، وحاجتي لعين أمي حتى تقرأ ‏الكتب، والتي لم تكن على قدر كافٍ من المعرفة في المواد العلمية الصعبة، ملئها الأرقام والحساب والمعادلات ‏والقوانين، الأمر الذي اضطرني لقبول الواقع الأنسب، واخترت فرع العلوم الإنسانية، كانت إرادتي أكبر من ‏مساحة الأحلام، كل الأحلام صغيرة في فضائي الواسع المملوء بالصور الضبابية،  والكلمات المرصوفة ‏بعضها فوق بعض”.‏

مرة بعد مرة، وبعد كل زيارة لمستشفى سان جون للعيون في القدس، يخبر الأطباء أولياء الأمر أن حالة ‏عطاء لا تزداد تحسنا ولا سوءا، بعد أن وصلت نسبة العجز نحو 90%، ولا يًرجى في حالتها إلا أن تحافظ ‏على بقايا الضوء، بعد أن سجل  تقريرها الطبي أنها لا ترى مسافة أبعد من متر واحد. ‏

جاء هذا قبيل إمتحان الثانوية العامة، ما دعى الأهل لأخذ الإجراءات اللازمة، لحذف بعض المواد المقررة ‏التي يستعصي حلّها، شأنها شأن المكفوفين من الطلبة المقبلين على إمتحان الثانوية العامة، جمعت العائلة جُلّ ‏تقاريرها الطبية، التي تؤكد عدم قدرتها عن الإجابة على سؤال الخارطة في مادة الجغرافيا، وامتحان ‏التكنولوجيا المحوسب، وسؤال العَروض في اللغة العربية، ومادة الرياضيات رغم عبقريتها، إلا أنه من غير ‏المنطقي، أن تؤدي إمتحانا رسميا له قدسيته مشافهة. ‏

أمام اللجنة الطبية الحكومية، ورقة تعج بالحروف الصغيرة والكبيرة، سؤال وقفت عطاء أمامه ولا شيء ‏ينطق إلا تعابير الوجه العاجزة أمام الحبر والورق، وغم ذلك إلا أن نتيجة الفحص كانت مجحفة بحق العيون ‏التيه، خرج التقرير بنسبة عجز 90% في البصر، وفي شرع الحكومة، تحذف المواد الآنف ذكرها  إلى ‏الطلبة التي تصل نسبة العجز 95% فما فوق، ويكفي في حالة عطاء، أن يُعين لها كاتب في الإمتحان. ‏

تحدٍ آخر في وجه العنيد، فإذا شرعت عطاء بالإجابة عن الأسئلة المفروض حذفهاـ تخسر على الأقل 10 ‏درجات في كل مادة، لاسيما الإمتحان المحوسب، والذي يحدد مصيرها إما بالنجاح أو الرسوب، لم تقف ‏والدتها مكتوفة الأيدي، وبالعودة إلى اللجنة الطبية، تضع على الطاولة تقرير البروفيسور والذي يُقر جازما ‏أنها لا ترى حدود البلاد، وحركات الحروف في أبيات الشعر، وحركة مؤشر الكومبيوتر، إلا أنه قوبل ‏بالرفض، َقائلين لها ” أي تقرير من طبيب خاص ضعيه في حقيبتك” ‏

لم تيأس، وما زالت تطرق الأبواب بقوة، حتى تمكنت أخيرا من الحذف، بينما تقدم عطاء الإمتحان التجريبي، ‏وبهذه الكلمات استجمع سيزيف قواه “النجاح كان ولا يزال حليفي، أنا أرنو للتفوق”.‏

يوم الحصاد…غاشية الفرح

لم يغير الدأوب عادة منذ بدأ برسم المستقبل، إلى أن أتاه فاتحا ذراعية، امتحان الثانوية، حصار يحيط المكان ‏من كل جانب، ولا تزال والدة عطاء، تسمي لها الكتاب حرفا حرفا، ولا تستريح على فراش إلا بعودة عطاء ‏من الإمتحان بملامح ضاحكة مستبشرة، إلى أن جاء يوم الحصاد، غاشية الفرح. ‏

‏ تبتسم “تموز من العام هذا حين حصلت على معدل 97% في الثانوية العامة، هنا تغيرت مسالك الدنيا، ‏أحلامي تمد ذراعها، أخيرا لمست سماء المجد، ونشقتْ أمي ما زرعتْ من الأمل في صدري”.‏

وكلام الوالدة في اللحظة تلك، دموع تنعجن بصوت الحمد والشكر.‏

حفلات التكريم والمباركات أخذت تتهاوى على البيت من كل صوب، ضجت مضاجع المدينة لفتاة من ذوي ‏الإحتياجات الخاصة والحاصلة على معدل عالٍ، صار لوقع الأقدام صدى بعد الوصول، حصلت عطاء على ‏منحة دراسية كاملة من أحد رجال الأعمال تشمل الدراسات العليا، واختارات جامعة النجاح الوطنية لتكون ‏محطة وصول، منها إلى إقلاع جديد، نحو المجد. ‏

أسبوعين قبل الجامعة

‏”بدأت أفكر في اختيار التخصص الذي أبدأ من عنده رحلتي الجديدة، كانت كل الخيارات متاحة أمامي، ‏الكليات الأدبية جمعاء تشدني إليها، وكان علم  الاجتماع وعلم النفس والقانون يشغل الحيز الأكبر في ذهني، ‏لم يكن قرارا سهلا، مما استدعى تدخل من حولي، كلُ يقدم نصائحه”.‏

وفي نهاية المطاف، قررت عطاء أن تدخل كلية علم الإجتماع والخدمة الإجتماعية، وإذا تُسأل عن السبب ‏قالت أنها تريد أن تمد ذراعها إلى من هم بحاجة إلى الدعم النفسي والإجتماعي، التي كانت بأمس الحاجة إليه ‏وقدمته عائلتها إليها، تريد أن تكون عائلة تحتضن كل الذي صنفهم المجتمع هامشا، وتضعهم على رأس كتاب ‏هذا العالم، في البصيرة.‏

‏ “جُل الذي أفكر به كيف أقضي أول يوم جامعي، لا أعرف أحدا هناك، وقبيل الدوام، استدعاني القدر لحفل ‏التكريم الذي تعرفت به على أول أصدقائي، نرمين، التي سألت عني الجميع هناك، حتى استدلت علي، ‏وطمأنت مخاوفي كلها، ونمت ليلتها أحلم في الغد الجميل الذي بانتظاري”. ‏

النهاية…النجاح

‏”بعدما صرت بينكم، بدأت أتكيف مع الجامعة، تعرفت على ثلة من الأصدقاء الرائعين، الذي تقبلوا اختلافي ‏الصغير، وصار الكل أعيني، بوعيهم ورحابة صدرهم، كل يوم أستيقظ به لأغادر بيتي متجهة نحو هنا، يكبر ‏بي حلما جديدا، وصارت رؤيتي أن استمر في مسيرتي التعليمية وأرمي إلى الدراسات العليا والشهادات التي ‏تمكنني أخيرا من اجتياز الجبل المنحدر،  حاملا على ظهري صخرتي وحتما سأوصلها إلى القمة”.‏

‏”أنا في حكايتي… سيزيف”.‏

 

معلومات عن التقرير

إعداد: لينا المصري

إشراف: أ.أيمن المصري/ قسم الصحافة المكتوبة والإلكترونية

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.