نَوّار

بقلم: أحمد جمال، خريج قسم العلوم السياسية‏ – جامعة النجاح الوطنية

يستيقظ في منتصف الطريق، فاتحًا عينيه على نافذة الحافلة. كلّ شيء يسير إلى الخلف، والحافلة ‏تتقدّم، البيوت تبدو لناظره من بعيد مبعثرة حينًا ومتلاصقة أحيانًا، متعدّدة الأشكال والأحجام، ‏تتمايل مع ميلان الجبال في صعود وهبوط ثابتَين، وسرعان ما بدأت تظهر أمامه بيوت تحتلّ قمم ‏الجبال، منتظمة في سطور، ويعلوها قرميد زهريّ اللون، متشابهة كنسخ مصوّرة، من حولها ‏حزام من الأسلاك الشائكة وأشجار السرو تغطّي أجزاءً منها.‏

‏ دارت الحافلة إلى جهة اليمين وأكملت سيرها. وفي منتصف الطريق تقريبًا، بدت أشجار اللوز ‏مزيَّنة بيضاء، مغسَّلة بماء المطر، تغطّي مساحات واسعة تأسر الأنظار. يؤخذ بسحرِ النوّار ‏الأبيض، واضعًا يديه على الزجاج لاصقًا وجهه فيه ينظر.‏

‏ في سنّ مبكّرة، بدأ نوّار العمل في بيع السكاكر وزجاجات المياه. كان يدور منذ ساعات الظهيرة ‏بعد انتهاء الدوام المدرسيّ، في البرد القارس وفي حرّ الصيف، يبحث عن حياة بين الوجوه في ‏الطرقات، عن بعض أرغفة الخبز يحملها عند المساء في طريق عودته لبيته الكائن في مخيّم ‏العين، عن حال أفضل يبحث، أشبه برجل كهل شَظف، ضاقت به الدنيا، وأرهقه بؤس العيش.‏

بعد أشهر من العمل في الطرقات، استقرّ به الحال يعمل في مَجمَع المواصلات العامّة. فيه ‏الحافلات والمركبات الصغيرة الّتي تصل نابلس بمدن الضفّة الغربيّة، يقصده سكّان المدينة وما ‏حولها. صار يبقى فيه لساعات، بشكل يوميّ دون انقطاع، يصعد إلى الحافلات، يجول المركبات ‏ينده، ويبيع بعضًا ممّا لديه.‏

‏ تُبطئ الحافلة سيرها، ويميل السائق إلى جهة اليمين ثمّ يتوقّف. ينتصب نوّار عن مقعده، ينظر ‏حوله إلى الركّاب يتذمّرون، “يبدو أنّ الحافلة تعطّلت”، يقول في ذهنه ويسير بصينيّته متّجهًا إلى ‏الباب الأماميّ لينزل.‏

‏ في الجهة المقابلة من الشارع، يقف شابّان بالقرب من محطّة انتظار، يرتديان ملابس واسعة ‏ملوّنة، وحذاءين جلديّين تبرز من خلالهما أصابع أقدامهما، ذوَي شعر طويل منسدل إلى أكتافهما، ‏تعلوه طاقيّة صغيرة من الخلف تلتصق.‏

‏ يسير ليقطع الشارع متّجهًا إلى الجهة المقابلة، ضامًّا صينيّته الفضّيّة بين ذراعيه. يتقدّم مقتربًا من ‏جادّة الشارع. تبدأ أعين الشابّين تترقّب خطواته. يكمل تقدّمه حذرًا؛ فالمركبات تسير مسرعة من ‏أمامه.‏

‏ يقترب، يترقّبان.‏

‏ يصل الرصيف في الوسط، أعينهما لا تنفكّ تراقب، وفمهما يتهامس.‏

‏ ينظر نوّار يمينًا ويسارًا ويُنزل قدمه عن الرصيف. أصوات الهمس تعلو.‏

‏ يخطو خطوته الأولى وعيناه تشخصان إلى الطريق من حوله. أيديهما تمتدّ نحوه تؤشّر، وسيّارة ‏مسرعة عن اليمين تتقدّم، تتوالى الصرخات من الخلف ومن الأمام، يرتبك، وفي مكانه يجمد، ‏زامور السيّارة يجعله يركض إلى الأمام.‏

‏ لم يَخطُ سوى خطوتين حتّى جاءته الرصاصات من الأمام في الصدر، تدور به الدنيا ويهوى ‏جسده، وقبل احتضان الأرض ترطمه السيّارة فيرتفع، ثمّ يُلقى على بعد أمتار في الشارع.‏

‏*‏

‏ كان أبو أحمد سائق الحافلة الأقرب إلى نوّار، رجل في الخمسين من عمره، قضى نصفها يعمل ‏سائقًا بين مدينتَي نابلس ورام الله. منذ أن شاهد نوّار في الساحة يدور ويصرخ “حوايج، مَيْ، ‏حوايج”، أصبح زبونًا دائمًا له، فهو يشرب المياه بغزارة خلال العمل. وفي يومٍ انتزع نوّارًا من ‏بين يدَي سائق آخر أراد تربيته؛ لأنّ زعيقه منعه من إكمال قيلولته اليوميّة، هكذا ردّ السائق على ‏أبو أحمد عندما فكّ يديه الغليظتين من حول جسد نوّار الصغير النحيل. ومن بعد هذا اليوم صار ‏نوّار يحتمي به إذا ما استفاق ذلك السائق من نومه.‏

‏ كان يبدو على ملامح الطفل تعب وهمّ متلازمان، رغم ابتسامته الدائمة على وجهه. سكوته ‏الطويل المتأمّل عندما يكون وحيدًا ينتهي عند قدوم أقرانه بلهوٍ وضحكات لا تنتهي. هذا ما لاحظه ‏أبو أحمد من مراقبته الدائمة لنوّار، حتّى راوده الفضول ليتقرّب منه أكثر، ويصبح جزءًا من ‏داخله.‏

مُلقًى بجسده على الأرض، تغطّيه الدماء تتدفّق من كلّ موضع، تسيل مبتعدة عن الجسد بأمتار، ‏ومن حوله تتناثر زجاجات المياه وأكياس السكاكر، ودماء لطّخت الصينيّة الفضّيّة ضخّها صدره ‏لحظة ثقبته الرصاصات. تجمهر الناس يتدافعون، ويصرخون، لا حول لهم، وما بيدهم من حيلة.‏

‏ لا أثر للشابّين في الشارع، السيّارة مصطفّة في مكانها، زجاجها مهشّم، وأبو أحمد فاتح عينيه ‏وُسعَها مشدوهًا، يضرب وجهه بيديه، يبكي وينحب كما النساء، جاثيًا على ركبتيه يردّد “نوّار ‏مات، أنا قتلته”. ‏

‏*

في المخيّم تتراصّ البيوت في نسق مبعثر من الذاكرة، متلاصقة في دفء وهدوء واضحَين. ‏يطغى عليها اللون الرماديّ، بتفاصيلها كلّها. تجتمع في محيط محصور، معبّرة عن وحدانيّة الهمّ، ‏كأنّ بعضها يحتمي ببعض.‏

‏دخل أبو أحمد برفقة نوّار يصطحبه إلى بيته. كانت الأزقّة تَضيق كلّما مضيا في سيرهما نحو ‏وسط المخيّم، حتّى أصبحت لا تتّسع إلى الاثنين معًا إلّا إذا سار أحدهما خلف الآخر، وكلّما اقتربا ‏إلى هدفهما، اكتظّت الأزقّة أكثر، من المارّة والواقفين، ومن الجالسين أمام البيوت والمتفرّجين، ‏ومن الأطفال الراكضين حولهم يلعبون.‏

‏ في نهاية الزقاق ظهرت والدة نوّار منتظرة قدومه، تحمل في يدها مقشّة تجول الأرضيّة بها، ‏ولحظة لمحته من بعيد بدأت الشتائم تتوالى وتنهمر.‏

‏ عند وصولهم أمام الباب بدأت تخاطب أبا أحمد:‏

‏ ‏- هذا الولد يريد أن يقتلني… تفضّل تفضّل، لا يسمع كلامي، الفاشل يبقى فاشلًا، لا يدرس… ‏تفضّل تفضّل، تنتهي المدرسة… يأتي ليلقي حقيبته ويخرج مع أكياسه، سيقتلني… تفضّل تفضّل، ‏ماذا تراني أفعل معه؟

‏ أبو أحمد متعجّبًا مبتسمًا يقول لها: “هذا جيل لا ينصاع لأحد، لكنّه أخبرني عكس ذلك!”، ويجلس ‏متفحّصًا البيت الّذي يتكوّن من غرفتين فقط، إحداهما للنوم والثانية للجلوس والأكل، فيها مطبخ ‏وحمّام صغيران. نظر إلى الحائط أمامه نحو صورة على طرفها شريط أسود، ومن دون سؤال، ‏أجابت:‏

‏- هذا زوجي توفّي منذ خمس سنوات، وترك لي اثنين خلفه سامحه الله. سأعدّ الشاي، تفضّل ‏تفضّل.‏

‏‏- أنا أبو أحمد، أعمل في…‏

‏ ‏- أعرف، أهلًا وسهلًا.‏

‏ ‏- إذن، أين هو جمال؟

‏ ‏- ذاك أسوأ من هذا، في الخارج يبقى حتّى الليل، ربّما رأيتموه في الخارج عند قدومكم. أنا أعمل ‏في الخياطة، أخيط ملابس هذا المخيّم كلّها. نوّار يساعدني في مصاريف البيت، أمّا جمال فلا ‏يزال صغيرًا، إنّه أصغر من نوّار بعامين.‏

‏ خرج أبو أحمد بعد أن أخذ موافقة الأمّ على اصطحابه ولدها إلى رام الله في يوم العطلة، أي بعد ‏يومين من هذا اليوم. قال لها إنّه كثير الإصرار عليه لأخذه، منذ ألفه في العمل وهو يطلب منه ‏الذهاب معه في أحد الأيّام، لكنّه لم يرغب في ذلك دون علم الأهل. وقال إنّه ربّما يحصل على ‏رزق أكبر هناك، فوافقت.‏

‏ كان يومًا ماطرًا. ما إن انطلقت الحافلة، حتّى راح نوّار في نومه، مسنِدًا رأسه على النافذة عن ‏يساره.‏

‏ ‏*‏

‏ مرفوعًا على أكفٍّ، يسير غيمة تتلوها غيمة، يبتعد كنجم في آخر المجرّة، وعيناها تلاحقانه ‏تغسلان خدّيه بالدموع واعتصار الألم. منذ ذاك اليوم وهي تجلس أمام البيت تنظر إلى آخر الزقاق، ‏وتراه، في كلّ ليلة يظهر لعينيها آتيًا ثمّ يبهت ويزول.‏

حتّى اليوم، بعد أسابيع، ظهر من آخر الزقاق أبو أحمد، يسير بخطوات متثاقلة، بطيئة، مطأطِئ ‏الرأس شاحبًا.‏

‏ تُتمتم “تفضّل” ودخلت.‏

‏ يدخل ويجلس في المكان نفسه، ينظر إلى الصورة نفسها، الّتي علّقت بجانبها صورة أخرى لنوّار، ‏فتجيبه دون أن يسأل:‏

‏ ‏- لم أشهد ألمًا في حياتي أشدّ من رحيله، كان يعينني، وكان وجوده أمامي يثلج صدري، يغنيني ‏عن أيّ شيء في الدنيا، الآن كيف ستكون الحياة، إذا لم يأتِ إلى البيت إطلاقًا، لا في الصباح ولا ‏في المساء ولا بعد… أردته أن يحيا طفولته كباقي أبناء جيله، أن أرى في عينيه ارتياحًا، لكنّي لم ‏أشهده. لم يكن فاشلًا البتّة، كلّا لم يكن.‏

‏ يُتمتم أبو أحمد بكلام غير مفهوم تمامًا، فيه مواساة واعتذار. تصمت الأمّ ثمّ تعود لمجلسها أمام ‏البيت. يخرج بعد قوله كلمات العزاء مرّة أخرى بصوت أجشّ، يبتعد ببطء من أمامها.‏

‏ في صباح اليوم التالي يذهب إلى عمله للمرّة الأولى منذ الحادثة، يجلس في حافلته، يُنعم النظر في ‏الساحة الواسعة وما فيها من مارّة وركّاب لبعض الوقت، فيبدأ الصوت بالظهور “حوايج… مَيْ… ‏حوايج”. لا يلتفت، ثمّ يظهر مرّة ثانية بوضوح، ينتفض، ويلاحق الصوت ببصره، الصوت ‏يقترب إلى مسامعه، يلتفت يمينًا ويسارًا، يحاول التركيز، يسكت الصوت فجأة، فيرجع أبو أحمد ‏مسترخيًا إلى مقعده لوهلة. يعود الصوت يعلو بين الحافلات، يفزّ عن كرسيّه، صوت حقيقيّ لا ‏لبس فيه، يرنّ في أذنه، لا ينساه، يقترب في اتّجاه الحافلة، حتّى يمرّ من أمامها: “نوّار، إنّه نوّار”، ‏يتملّكه الذعر والاندهاش. يلتفت إليه قائلًا: “أتريد ماء؟”، يومئ برأسه أن لا، ويجلس.‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.