ما الغاية من الحياة ؟

لم يعيش الإنسان في هذه الحياة, وما الغاية من خلقه, وما الأهداف التي يسعى لتحقيقها؟  تساؤلات قد تراود الواحد منا وهو يسير في درب الحياة ولا يستطيع أن  يجد لها جوابا شافيا, ولكن مهما كان الجواب, فالحقيقة أن الناس تختلف في غياتها, وتتنوع في مراميها وأهدافها, فمن الناس من يسعى لجمع المال والثروة, ومنهم من يكد ليشغر وظيفة محترمة, وآخر يقضي العمر سائحا متجولا في أرض الله الواسعة, وآخر همه أن يستقر في بيت مع زوج وأولاد, ولكن القليل من يكون مبتغاه خدمة الآخرين ومساعدتهم, أو تكريس نفسه للعلم والأبحاث والاكتشافات والاختراعات والروحانيات والإصلاح وعمل الخير.

وإنني أشفق أكثر ما أشفق على الذين غايتهم في الحياة جمع المال والثروة، فأشعر أنهم مساكين, نسوا أنفسهم وحرموا من طعم السعادة الحقيقية وهم يلهثون وراء المال.  صحيح أن المال قد يغري صاحبه, وقد يشعره بالسعادة في بداية الأمر وهو قوي في سن الشباب, ولكنه إذا ما شاخ وهرم يكتشف أنه لا قيمة للمال إن لم يسخره في ترقية نفسه ورفعته والآخرين, وقد يكتشف متأخرا أنه فاته الشيء الكثير من متع الحياة وهو يلهث وراء المال, فخسر نفسه وسعادته الروحية وعلاقاته الإجتماعية وحتى سمعته وخاصة إن كان جشعا مرابيا.  إن قولنا هذا لا يعني أن لا قيمة للمال, ولا ننكر أن الإنسان بالمال يستطيع أن يحقق الكثير من الرغبات والإنجازات, ولكن الذي نود قوله هنا أن المال إذا أصبح غاية في حد ذاته فاقرأ على صاحبه السلام, لأن المال ليس كل شيء في الحياة, ويجب ألا يستهلك الإنسان قواه ونشاطه وعصبه وهو يركض وراءه ويلهث في جمعه وتخزينه وتكديسه, دون أن يعرف كيف يعمل هذا المال على زيادة متعه وقيمته وقدره وعلمه وثقافته, وأكبر دليل على ذلك أن الذي يملك عشرة آلاف دينار مثلا يستطيع أن يمتع نفسه ويرفها أكثر من الذي يملك ألفي دينار, ولكنه لا يستطيع أن يزيد على متعه وسعادته إذا امتلك اثني أو ثلاثة عشر ألفا, فما بالك من الذي يقضي العمر كله وهو يخزن الألوف المألفة دون أن يشبع, ويظل يسعى ويركض ويتصبب عرقا ليحصل على المزيد دون أن يضيف إلى حياته شيئا جوهريا, فما أتعسه من إنسان وما أشقاه وما أضيق تفكير, لأنه ظن أن رقيه وارتفاع مستواه الإجتماعي لا يكون إلا بالمال, والأثاث الفاخر, والسيارة الفارهة, والبناية الشاهقة, والقصر المنيف, والشره في الطعام وحب النساء, في الوقت الذي تصغر نفسه شيئا فشيئا, ويضمر عقله رويدا رويدا من قلة العلم والمعرفة والقراءة والثقافة, ومن ثم تنطفئ روحه وتذبل لتصبح شمعة ذاوية لا تضيئ بشعاعها الباهت أكثر من محيط نفسها.

الحقيقة العملية تقول أن المال شيء ضروري في الحياة, ولا ضرر من وفرته إذا كان وسيلة تحمي صاحبه من ذل السؤال, وتصون كرامته وعزته ورفعته, أما أن يكون غاية الغايات فهذا هو الشقاء بعينه.  ولو أدرك جامع المال أن متع الإنسان نفسها محدودة, وقدرته على التمتع بها محدودة, وعمره محدود وأيامه معدوده, لما صرف سنيه وعمره في جمع المال والثروة, ولو عرف أنه إذا زاد ماله لا يعني أنه أصبح يأكل أكثر من الآخرين, أو يملأ معدته أكثر من سعتها, أو يحب أكثر من غيره, أو ينام أكثر راحة إذا كان  سريره من ذهب من الذي سريره من حديد, أو أنه أصبح يمور بصحة وعافية أكثر من الذي ماله أقل.

هذه الحقائق تقول لنا إن أشرف غايات الحياة أن يرقى الإنسان بروحه ونفسه وعقله عن طريق الأدب والأخلاق والعلم والثقافة والمعرفة والقراءة والمطالعة لا عن طريق المال والثروة فقط, وأن يكرس نفسه وجهده وماله وطاقته لخدمة نفسه وبيته وأهله والآخرين والإنسانية أجمعين لا أن يكرسها في جمع المال وإشباع جشعه وطمع الطامعين.  فلا أحلى من أن يفرغ الإنسان جزءا من حياته للروحانيات وعمل الخير, كمساعدة المرضى, وإعانة الفقراء, وتعليم الأذكياء, ومواساة المحزونين, والدفاع عن المظلومين, وإقامة العدل ونشر الحرية, ومقاومة الحروب ونشر السلام؛ ولا أسمى من أن يقضي جزءا من وقته ـ إلى جانب طلب الرزق ـ في التزود بالعلم والمعرفة والقراءة والمطالعة, وعمل الأبحاث المفيدة إن كان أستاذا, والانغماس في الاكتشافات والاختراعات الأصيلة إذا كان عبقريا, تلك الأعمال التي تفيد الأمة بأسرها وتعمل على رقيها وتطورها ودرء الخطر عنها.  وما أجمل أن تكون غاية الإنسان في الحياة تعليم جاهل, وهداية ضال, ومعالجة مريض, ومساعدة محتاج, ونصرة مظلوم, ومقاومة ظالم, وزرع بسمة على شفاه طفل محروم, وإعادة الأمل إلى نفس بائس محزون, ومد يد العون إلى محتاج فقير منكود.  فإن جعل الإنسان هذه الأعمال أهدافا يسعى إليها وجد حياته حافلة بالمتع العظيمة, والسعادة الروحية, والمعاني الإنسانية, والأعمال الجليلة التي تشغل نفسه وذهنه بأشياء معنوية, وتملأ وقته بأعمال قيمة مفيدة, وتريح نفسه وضميره  بأعمال اجتماعية وعلمية وروحانية, مما يشعره بالراحة والرضى وهو يتقدم نحو قبره إما زاحفا وإما راكضا, إذ أن الانشغال بهذه الأمور يبقى أمتع للنفس ألف مرة من الإنشغال بجمع المال, ويا سعد الذي يضحي براحته ونفسه وماله, ووقته في سبيل الهداية, والعلم, والدين, والبحث والاكتشاف, والتأليف, ومساعدة الآخرين, واضعا نصب عينيه عمل الخير ونيل رضى الله, فلا يبالي بعدها بما يقاسيه, أو يعانيه, من ظلم الحساد الذين يقفون في طريقه, أو يعيقون مهمته.  فاللذة العليا, والمتع الحقيقية, والسعادة الصافية, هي أن نرى أنفسنا نرتقي ونرتفع ونجاري التطور, إذ أن في نفس كل منا شهوة عنيفة للتطور والرقي والسمو, وهذه الرغبة التي كرمنا الله بها وميزنا بها عن سائر الحيوان, هي أصل كل الثورات الإجتماعية والاكتشافات والاختراعات والحضارة والرقي والتطور.

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.