ظللت فترة طويلة أحسب أن الجمال هو الجمال المادي الظاهر الذي تنسجم فيه عناصر الشيء في اتساق فريد وتآلف، فيثير في النفس سعادة وهناء، ويعكس في العين جمالا وانبهارا، ويحدث في الأذن طربا وانتشاء مما يجعله يبدو للناظرين آية في شكله ولونه ونغمه. هذا النوع من الجمال عادة ما يتجلى في تناسق أعضاء الجسم أو لوحة فنية، نوتة موسيقية، أو صنعة فريدة، أو الطبيعة التي خلقها الله بكل ما فيها من جبال وأنهار وبحار وشروق وغروب ونجوم وأقمار إلى غير ذلك من مظاهر الجمال المادي المحسوس الذي تسعد به العين والأذن طربا وانتشاء وراحة واستئناسا. ومع مرور الزمن ومن خلال مشاهدتي لكثير من اللوحات الإنسانية الصامتة الناطقة، فقد أدركت أن الجمال الحقيقي ليس الجمال المتجسد في المادة والمظهر فقط، وإنما الأجمل منه الكامن في جمال الروح.
هذا الجمال الروحي أحسست فيه في مواقف متعددة، فقد رأيته في السواعد القوية وهي تنتشر في الطرقات والسهول والجبال تحمل فأسها وتضرب بمعولها الأرض لتشق به شارعا، أو لتعبد رصيفا أو لترفع عمدانا أو لتصلح خرابا بكل همة ونشاط والعرق يتصبب من جبينها قطرات كأنها اللؤلؤ والألماس. لقد رأيت الجمال الروحي في الموسيقار وهو يعزف على آلته الموسيقية يحتضنها بكل انفعال وشوق مثار، مغمض الجفنين يتمايل بحركات ذات اليمين وذات الشمال متذوقا اللحن الذي يعزفه، أو منتشيا بالنوتة التي يؤلفها. لقد رأيت الجمال الروحي في العالم المكبّ على أوراقه وأبحاثه وهو يقلب صفحاتها ويخط سطورها ليملأها دررا وشموسا وأقمارا بما يعصف في ذهنه من أفكار، وما يعلتج في قلبه من انفعال فتخرج إلى الإنسانية علما مفيدا واختراعا فريدا ينقذهم من براثن الجهل والأمية والموت والاندثار. لقد رأيت هذا الجمال الروحي في ضمير القاضي وهو يدافع بكل إخلاص وحرارة عن حق مهدور أو إنسان مظلوم ليعيد له ما سلب منه زورا وبهتانا. لقد رأيته في انحناء الطبيب على مريضه وهو يفحصه ويشخص مرضه بكل تيقظ وحس وعقل، ليصف له الدواء الذي يخفف من آلامه ويشفيه من أمراضه وأوجاعه ليصبح معافى يمور بالصحة والعافية ويمارس حياته الطبيعية بين أهله وأصدقائه وزملائه، يعمل ويخدم بشكل طبيعي.
وأكثر من ذلك فقد رأيت هذا الجمال الروحي في العيون وهي تشع بالأمل والضياء لتساعد من لا ضياء في عيونهم ولا أمل في حياتهم. لقد رأيته في صرخات الضمائر الحية وهي ترفع صوتها وتنبري أقلامها ضد المنازعات الطائفية، والفروق الطبقية، والمعتقدات الدينية، والحروب الأهلية التي تنشر العداوة والبغضاء بين الناس بدل أن تؤلفهم، وتشعل التناحر وتنشب الحروب في صفوفهم بدل أن تصون حياتهم وأمنهم وسلامهم وكرامتهم. لقد رأيته في الأكف الصغيرة التي تحيك النسيج لتدفئ العريانين، وتجمع الدراهم لتنقذ المشردين والتعساء المهجرين. لقد رأيته في النفوس الصافية التي لا تضمر ضغينة لأحد، ولا تحسد أحدا، بل تتمتع بصدر رحب يحب كل الناس ويصافي كل الناس. إن مثل هذه اللوحات الإنسانية الناطقة بالجمال الروحي لهي أسمى عندي وأشد بهاء وتأثيرا من اللوحات التي تعج بالجمال المادي الذي ينتفي بانتفاء أسبابه.
عندها أدركت أن الجمال الحقيقي هو في جمال الروح، وجمال الضمير الحي اليقظ، والنفس السليمة التي تحب الخير للجميع، وتعمل من أجل الجميع. هو في جمال النفس الصافية التي تشعر مع الفقراء، وتقف إلى جانب المظلومين والتعساء، فتهب لمساعدتهم بكل حب وتفاني وإخلاص. هو في جمال العمل المخلص والتفاني في خدمة الغير وأخذ القرش بالحلال. هو الجمال الذي يكمن في عفوية الأطفال وهم يحثون الخطى إلى المدارس، وفي عزيمة الشباب وهم يتوافدون إلى الجامعات والمعاهد طلبا للعلم وحبا في المعرفة والتنوير والارتقاء. إنه الجمال الذي يتجاوب مع كل فكرة نبيلة ويتوثّب مدافعا عنها وعن كل مبدأ سام. إنه الجمال الذي يتجلى صورا صامتة رائعة تنبثق من الجمال السرمدي والروح المقدسة التي هي فوق كل جمال، إنه جمال الله المتجلي في نقاء الضمير والوجدان، وفي جمال الروح المتوثبة لكل جمال وتعشق كل جمال. وهل هناك أجمل من الجمال الروحي الذي يمنح للإنسان مناعة ضد الجهل والظلم والانحراف عن الطبيعة الخيرة، وهل هناك أجمل من جمال النفس الغنية المتسامية التي هي أثمن من كل ماديات الدنيا الزائفة الفانية وبكل ما فيها من لآلي وجواهر ودرر وذهب وأموال. لا أظن، لأن الجمال الحقيقي هو في جمال الروح والمخبر، وليس في جمال المادة والمظهر.
كاتبة وأديبة، ومحاضرة في قسم أساليب التدريس والدراسات العليا في كلية التربية/ جامعة النجاح الوطنية
1 التعليق