‏ الجمال الروحي…!‏

ظللت فترة طويلة أحسب أن الجمال هو الجمال المادي الظاهر الذي تنسجم فيه عناصر الشيء ‏في اتساق فريد وتآلف، فيثير في النفس سعادة وهناء، ويعكس في العين جمالا وانبهارا، ويحدث ‏في الأذن طربا وانتشاء مما يجعله يبدو للناظرين آية في شكله ولونه ونغمه.  هذا النوع من ‏الجمال عادة ما يتجلى في تناسق أعضاء الجسم أو لوحة فنية، نوتة موسيقية، أو صنعة فريدة، أو ‏الطبيعة التي خلقها الله بكل ما فيها من جبال وأنهار وبحار وشروق وغروب ونجوم وأقمار إلى ‏غير ذلك من مظاهر الجمال المادي المحسوس الذي تسعد به العين والأذن طربا وانتشاء وراحة ‏واستئناسا.  ومع مرور الزمن ومن خلال مشاهدتي لكثير من اللوحات الإنسانية الصامتة الناطقة، ‏فقد أدركت أن الجمال الحقيقي ليس الجمال المتجسد في المادة والمظهر فقط، وإنما الأجمل منه ‏الكامن في جمال الروح. ‏

هذا الجمال الروحي أحسست فيه في مواقف متعددة، فقد رأيته في السواعد القوية وهي ‏تنتشر في الطرقات والسهول والجبال تحمل فأسها وتضرب بمعولها الأرض لتشق به شارعا، أو ‏لتعبد رصيفا أو لترفع عمدانا أو لتصلح خرابا بكل همة ونشاط والعرق يتصبب من جبينها قطرات ‏كأنها اللؤلؤ والألماس.  لقد رأيت الجمال الروحي في الموسيقار وهو يعزف على آلته الموسيقية ‏يحتضنها بكل انفعال وشوق مثار، مغمض الجفنين يتمايل بحركات ذات اليمين وذات الشمال ‏متذوقا اللحن الذي يعزفه، أو منتشيا بالنوتة التي يؤلفها.  لقد رأيت الجمال الروحي في العالم ‏المكبّ على أوراقه وأبحاثه وهو يقلب صفحاتها ويخط سطورها ليملأها دررا وشموسا وأقمارا بما ‏يعصف في ذهنه من أفكار، وما يعلتج في قلبه من انفعال فتخرج إلى الإنسانية علما مفيدا ‏واختراعا فريدا ينقذهم من براثن الجهل والأمية والموت والاندثار.  لقد رأيت هذا الجمال الروحي ‏في ضمير القاضي وهو يدافع بكل إخلاص وحرارة عن حق مهدور أو إنسان مظلوم ليعيد له ما ‏سلب منه زورا وبهتانا.  لقد رأيته في انحناء الطبيب على مريضه وهو يفحصه ويشخص مرضه ‏بكل تيقظ وحس وعقل، ليصف له الدواء الذي يخفف من آلامه ويشفيه من أمراضه وأوجاعه ‏ليصبح معافى يمور بالصحة والعافية ويمارس حياته الطبيعية بين أهله وأصدقائه وزملائه، يعمل ‏ويخدم بشكل طبيعي. ‏

وأكثر من ذلك فقد رأيت هذا الجمال الروحي في العيون وهي تشع بالأمل والضياء ‏لتساعد من لا ضياء في عيونهم ولا أمل في حياتهم.  لقد رأيته في صرخات الضمائر الحية وهي ‏ترفع صوتها وتنبري أقلامها ضد المنازعات الطائفية، والفروق الطبقية، والمعتقدات الدينية، ‏والحروب الأهلية التي تنشر العداوة والبغضاء بين الناس بدل أن تؤلفهم، وتشعل التناحر وتنشب ‏الحروب في صفوفهم بدل أن تصون حياتهم وأمنهم وسلامهم وكرامتهم.  لقد رأيته في الأكف ‏الصغيرة التي تحيك النسيج لتدفئ العريانين، وتجمع الدراهم لتنقذ المشردين والتعساء المهجرين.  ‏لقد رأيته في النفوس الصافية التي لا تضمر ضغينة لأحد، ولا تحسد أحدا، بل تتمتع بصدر ‏رحب يحب كل الناس ويصافي كل الناس.  إن مثل هذه اللوحات الإنسانية الناطقة بالجمال ‏الروحي لهي أسمى عندي وأشد بهاء وتأثيرا من اللوحات التي تعج بالجمال المادي الذي ينتفي ‏بانتفاء أسبابه.‏

عندها أدركت أن الجمال الحقيقي هو في جمال الروح، وجمال الضمير الحي اليقظ، ‏والنفس السليمة التي تحب الخير للجميع، وتعمل من أجل الجميع.  هو في جمال النفس الصافية ‏التي تشعر مع الفقراء، وتقف إلى جانب المظلومين والتعساء، فتهب لمساعدتهم بكل حب وتفاني ‏وإخلاص.  هو في جمال العمل المخلص والتفاني في خدمة الغير وأخذ القرش بالحلال.  هو ‏الجمال الذي يكمن في عفوية الأطفال وهم يحثون الخطى إلى المدارس، وفي عزيمة الشباب وهم ‏يتوافدون إلى الجامعات والمعاهد طلبا للعلم وحبا في المعرفة والتنوير والارتقاء.  إنه الجمال الذي ‏يتجاوب مع كل فكرة نبيلة ويتوثّب مدافعا عنها وعن كل مبدأ سام. إنه الجمال الذي يتجلى صورا ‏صامتة رائعة تنبثق من الجمال السرمدي والروح المقدسة التي هي فوق كل جمال، إنه جمال الله ‏المتجلي في نقاء الضمير والوجدان، وفي جمال الروح المتوثبة لكل جمال وتعشق كل جمال.  ‏وهل هناك أجمل من الجمال الروحي الذي يمنح للإنسان مناعة ضد الجهل والظلم والانحراف عن ‏الطبيعة الخيرة، وهل هناك أجمل من جمال النفس الغنية المتسامية التي هي أثمن من كل ماديات ‏الدنيا الزائفة الفانية وبكل ما فيها من لآلي وجواهر ودرر وذهب وأموال. لا أظن، لأن الجمال ‏الحقيقي هو في جمال الروح والمخبر، وليس في جمال المادة والمظهر.‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

1 التعليق

  1. Pingback أيهما أهم الجمال الروحي أم الخارجي ؟ - سوا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.