أرى أنه من الضروري أن يخضع الإنسان نفسه للتقييم وينقدها ويغربلها ويحاسبها بين الحين والآخر، ومن المهم أن ينظر إلى أعماق نفسه بمجهر مكبر ليسبر غورها، والوقوف على دهاليز فكرها وسراديبها، ومعرفة ما اختبئ في تلافيفها من خير أو شر، وقبح وجمال، وصلاح وطلاح، ونجاح وإخفاق، وفيما إذا كان مخطئا في تصرفاته أم مصيبا، سليما أم معوجا، متهورا أم مترويا، منطقيا أم هوائيا، وفيما إذا كان يسير في حياته وفق الأخلاق والأصول، أم يتجه نحو الهاوية، حيث أن كثيرا من الأخطاء التي يرتكبها الإنسان، إذا ما فتش عنها، يجدها قابعة في أعماق نفسه، وليس في تصرفات الناس الآخرين.
من هنا، فعملية إخضاع النفس للتقييم والنقد، لهي حاجة ضرورية وملحة كالطعام والشراب، ويحتاجها كل فرد باستمرار، ليقف على حقيقة نفسه، ويعرف نقاط قوته وضعفه، وما الأمور التي نجح فيها وأخفق، وفيما إذا كان سائرا في الطريق المستقيم أم منحرفا في طريق الغلط أعمى أصما لا يرى ولا يسمع، وفيما إذا كان لديه هدف واضح في الحياة أم أنه يعيشها بعبثية مشتت الأهواء والنزعات! بمعنى آخر، على الإنسان أن يعرف ما له وما عليه في هذه الحياة سواء أكان لدى تعامله مع الآخرين، أو في أثناء القيام بعمله، أو حتى لدى التعامل مع أهله وأصدقائه ومحبيه وشركائه والمقربين إلى نفسه. وما كل ذلك إلا من أجل أن يعرف نفسه ويحكم عليها ويتخذ القرار المناسب بشأن علاقاته، ومن ثم اتخاذ الإجراء المناسب الذي يعالج ضعفه، ويدعم نقاط قوته ونجاحاته.
التقصير في المسؤوليات
فمثلا إذا عرفت أنك مقصر في القيام بمسؤولياتك، فعليك أن تضاعف جهدك لكي تقوم بها وتؤديها على خير ما يرام؛ وإن اكتشفت أنك فظ غليظ القلب في تعاملك، فعليك أن تنظر في طريقة تصرفك حتى تكون لطيفا تغفر وتسامح، وألا ينفضوا الناس من حولك؛ وإن شعرت أنك تتكلم أكثر من اللزوم ومعظم كلامك ليس في محله، فحاول أن تعد للعشرة قبل أن تنبس ببنت شفة، وأن تزم شفتيك وتمضغ كلماتك قبل أن تتفوه؛ وإن كنت تكثر من كلمات المدح والإطراء، أو الذم والنكران بمناسبة أو غير مناسبة، فحاول أن تقلل منها ولا تستخدمها إلى في وقتها ومحلها وبالقدر الذي يتناسب مع فعل صاحبها حتى لا تعطي معنى غير الذي قصدته منها؛ وإن اكتشفت أنك لا تلتزم بالمواعيد، كثير المراوغة والمماطلة والتسويف، فعليك أن تعود نفسك على النظام، وأن تضع لنفسك جدولا تتوخى فيه الصدق والأمانة والالتزام؛ وإن اكتشفت أنك شخصية غامضة لا تحسن التعبير عن نفسك، فتزعج غيرك وتجعلهم يسيئون فهمك أو يأخذوا صورة صورة مشوهة عنك، فكن صريحا باعتدال وصارحهم بالأمر حتى يعرفوا طبعك ونمط شخصيتك؛ وإن كنت معطاء أكثر من اللزوم، أو ممسكا لدرجة البخل والجنون، فوازن بين عطائك وإمساكك وقيم مصاريفك ومسئولياتك حتى لا تقعد ملوما محسورا…الخ من الأمثلة التي يجب أن يخضع فيها الفرد نفسه للتقييم.
عملية التقييم ليست سهلة
وعملية التقييم هذه ليست عملية سهلة، ولا كل إنسان قادر على القيام بها، بل لا بدّ أن يكون على قدر كاف من الذكاء واللباقة والعلم والمعرفة والوعي والإدراك، إذ أنها تحتاج إلى إعمال العقل بمنطق، ومراجعة النفس بموضوعية، والنظر في التصرفات والكلام والأفعال بعين ثاقبة، وذلك من أجل أن يتوصل إلى النتائج والأحكام التي تساعده على معرفة نفسه، والوقوف على المخفي فيها من خير أو شر، وظلم أو عدل، ومن ثم إجراء العمليات الجراحية اللازمة لأورامه السرطانية، وإزالة الزوائد والنتوءات التي علقت في روحه وعقله وتصرفاته، وتخليص جسده ونفسه من الأمراض، وتنقية دمه من الشوائب، ورئتيه من الهواء الفاسد، حتى يعيش بهناء، مرتاح النفس، هادي البال، هادي الضمير.
إن إخضاع النفس لعملية المحاسبة والمكاشفة والنقد والتقييم، مع تقبله في الوقت ذاته لنقد الآخرين وخاصة إذا كانوا له محبين صادقين مخلصين، لهي ضرورة ملحة وتزداد أهمية وخاصة في هذا العصر الذي نعيش الذي يتعقد فيه سلوك الإنسان يوما بعد يوم، وتظهر فيه مفاهيم ومبادئ جديدة مغايرة غير التي اعتنقناها، وتصرفات غريبة غير التي اعتدنا عليها، عصر ينمو فيه عقل الإنسان ويكبر باضطراد، وتزداد معلوماته وتغزر خبراته بشكل مدهش؛ مما يستوجب معه النقد والموازنة والغربلة وتقييم النفس.

كاتبة وأديبة، ومحاضرة في قسم أساليب التدريس والدراسات العليا في كلية التربية/ جامعة النجاح الوطنية