قصة قصيرة: وغابَ عن الدار

المشهد المعتاد صباحا، الأسرة الكبيرة الدافئة ، يتراكض أفرادُها ، هذا إلى عمله ‏وهذا إلى مدرسته ، وتلك إلى روضتها ، وأمُّ تشرِف وتُوجّه، يداها تحضّران الفطور ‏، ولسانها يعطي تعليماتٍ بضرورة الإسراع والجُهوزية، وعقلها مشغولٌ بأشياءَ ‏كثيرة : ” أتُراهم سمعوا بما يجري؟ الأحداث القادمة دامية ، وأسألُ اللهَ ألّا يُرِيَني ‏فيهم سوءًا . “‏

انفضَّ الجمعُ بعد الساعة السابعة والنصف ، ودخلت الأمُ معتركَ أعمالها البيتية ، ‏وعقلها يرتبُ وينظمُ كلَّ شيء ، المناسبات ومواعيد الخروج والملابس المناسبة ‏والمصروفات … تتنهّدُ عميقًا ، ويشتدُّ وجيبُ قلبِها ، ولا تملك إلا القول : يا ربِّ ، ‏نحنُ مُتّكلون عليك.‏

وفي غمرة المتاعب سقطتْ من يدها قطعةٌ من ثيابه : ” محمد ، أيها الشقيُ اللطيف ، ‏الله وحدَه يعلمُ كم تعلّقَ قلبي بك ، إنه أقربُهم إليّ ، كأنّه واسطةُ العِقد” .‏

محمد   ، الرجلُ في ثياب طفل ، يخطو مع أبيه خطواتِه الأولى نحو إبرازِ كفاءته ‏ومقدرته في حملِ تبِعاتِ ومسؤوليات الأسرة والبيت الكبير ، خرج مع والده لشراء ‏لوازم البيت والمدارس ، لكنّ القدرَ كانَ يرسم طريقًا مُغايرا.‏

وخلال سيرهما امتعضَ الأبُ، إذ لابدّ من تخطي هذا الحاجز الإسرائيلي المقيت ، ‏جنودٌ مدجَّجون بأسلحتهم ، وشعبٌ يقارعهم بكلِّ ما أوتي ، ولا يأس ولا قنوط.‏

تُدوّي رصاصاتُ الحقد ، يختبئُ محمدٌ خلفَ أبيه ، الأب المسكين يُلوّحُ للجنود بأنّ ‏هنا أبًا وطفلًا لا علاقةَ لهما بما يجري ، ولكن الحقد الأسود يرسمُ لوحةً لا يطغى ‏عليها إلا اللون الأحمر .‏

تستقرُ الرصاصاتُ في الجسد الصغير ، ويُركنُ الصغيرُ محمد رأسَه على كتِف والده ‏للمرة الأخيرة، ويرسمان معًا مشهدًا أليمًا تراه كلُ الدنيا ، ولا تحرِّك الضمير ‏الإنسانيَ المزعوم ، أبٌ جريحٌ فقدَ فِلذة كبده ، فقَدَ محمدًا ، وغاب عن داره قمرٌ ‏جميل .‏

وتلك المفجوعة الثكلى ، توشك أن تفقدَ عقلها  : ” ليتني ضمَمْتُه بشدةٍ هذا الصباح ، ‏ليتني منعتُهم من الخروج ، ليتني……… ليتني ……..” ‏

وما نسِيَه عقلُها ولا الفؤاد ، وما غابَ طيفُه عن عينيْها حيثُ حلَّتْ وتنقّلَتْ ، ولو غابَ ‏عن دارها قمرُها الجميل ، ولو غابَ عن دنيانا ” محمد الدرة” .‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.