خلف جدران المؤسسات

بقلم: حنين استيتية

دقت الساعة الخامسة إيذانا بصلاة الفجر، ونهض النهار، معلنا بداية يوم جديد من العمل، لنبدأ بطقوس الجري اليومية في سباق الألف ميل والذي عادة ما ننهي نهارنا وعبثا نصل لنهاية السباق، فمن يعمل بالمؤسسات الكبرى، يعتاد جري المسافات الطويلة وركوب القطارات دائمة المسير.

ستتعرف خلال عملك على الكثيرين داخل مؤسستك وخارجها.

وان كنت تبحث في انجازاتك عن رضى أحد فقد أخطأت العنوان، أهلا بك في المدينة الفاضلة التي لا مكان للمشاعر فيها حيث يتساوى هنا السخط والرضى، فالمعادلة أفقية لا تحوي أساسا مستوى الأفراد، وإنما بها مدخلات ومخرجات تتغير كل يوم وكل ساعة، وما ان تكون اعتدت على كيميائية معينة حتى تختلف المدخلات لتظهر نتائج جديدة لم تكن بالحسبان.
هنا تخفي شقوق الأرض والجدران حكايات كثيرة من النجاحات والفشل بعضها شهدناها والكثير لم نشهده ولم تعد الجمادات معنية بمشاركته لنا، فقد تنفست الحجارة أكسجين الكتمان لأجيال فقدت على أثره قدرتها على المشاركة.

نتشدق في مجالسنا بالحديث عن طبيعة إداراتنا، إدارات تتأرجح ما بين المركزية واللامركزية جميعها لها حسنات تعادل سلبياتها، اختلافها فقط في درجة اللون، لنكتشف أخيرا أن الإدارة ما هي إلا (وجهة نظر) يحكمها ما ندعوه قانونا بإمكاننا الجري في وسطه أو السير على أطراف هوامشه.

ورأس الهرم يحاول جاهدا قيادة أوركسترا ضخمة تعزف لحنا جماعيا صعبا أمام جمهور متعدد الأذواق صعب المراس، حضر بعضهم متذمرا حتى قبل أن يبدأ العرض.

كل مشروع إنجاز كبير يظهر للعيان يخفي خلفه خلافات كبيرة تخدش النفوس من الداخل، يدفعنا لنرقع بمزيج من عقائد الدين والاحترام ما تمزق من محبة لنعود بأشكال جديدة.

وكما تلاميذ الصف الذين يعملون مشروعا جماعيا في ظاهره، في باطنه ينجزه القلة القليل ليقطف الثمار بالنهاية محترفو فن الدعاية والظهور الذين يتقدمون الصفوف الأمامية لالتقاط الصورة النهائية.

يختلف الوضع عما تعلمناه بالكتب عندما كنا صغارا، أحيانا يمسي الصدق ضعيفا خائفا، ويرتدي الكذب ربطة عنق أنيقة ليصبح أجمل من الحقيقة نفسها.

وكلما ارتفع مركزك وعلا، كلما أحاطتك أقنعة الزيف أكثر من كل حدب وصوب، ولا يكاد الناس ينفضون من حولك كما لا يتوقف هاتفك عن الرنين…..احذر…..فمركزك العالي يجعلك تركب قطارا أكثر سرعة وأكثر تغييرا للمنعطفات والمحطات.

الجميع هنا يحب الوطن  -كلٌ على طريقته-  الجميع ينادي بأنه يعمل لأجل حب الوطن.

معادلة الحب هذه تأتي مع مدخلات إفرازات الحب الحقيقي من غيرة وحب تملك ودفاع مستميت، فنتقاتل كلنا على حب هذا المسكين، ونطلق على علاقاتنا ومحبتنا النار من مسافة صفر تحت راية بدعة أسميناها “الخلاف المهني” الذي أعطيناه شرعية مطلقة، وعلى الجانب الآخر نشارك نفس الخصوم أفراحهم وأحزانهم بقلب آخر ابتدعناه لتلك المواقف.

الشفقة والتقدير للشخوص لا تتعدى كونها لوحة رسام عالمي ندخرها لحين وفاته لننفقها عليه بأثر رجعي حين نهيل عليه التراب ونحتضن عائلته بحب كبير ونعدد المآثر العظيمة للراحل الفقيد.
نشارك بمسرحيات هزلية وأحيانا دموية، ونجلس بالاستراحات في المدرجات كالمتفرجين نرقب مسرحيات للآخرين الذين عبثا يحاولون جرنا لنشجع صفهم في حين نخطط للتفرغ لعرضنا الخاص الذي قد يتم تهميشنا عن قصد أو دون سوء نوايا حين يحين دوره.

وكل ذلك الجهد في حب الوطن الذي مزقناه.

نسمع جملا مستهلكة مفادها، تعز علينا المؤسسة والوطن!!!  ونسائل أنفسنا ما الذي يعز علينا أهي الحجارة أم الشخوص؟؟!!

ونعود لنجلس إلى مكاتبنا ننظر من نصف النافذة المفتوحة التي تدخل نصف إضاءة لا تكفي لغسل أكوام الليل المعشش على مر الزمن في النفوس.

ونلتفت أخيرا وبعد كل تلك التجاذبات، لنجد معادلة (الله) لا زالت ترتاح في مكانها، لم تتغير منذ آلاف السنين -لامعة- لا يعلوها طبقات الكلس أو الصدأ، مدخلاتها ومخرجاتها محمية بنظام أعلى من أنظمة السياسة والأحزاب والأجهزة والأفراد.
وعلا صوت الأذان مادا جسورا متحدة ما بين كل مئذنة وجارتها ليغلف فضاء المدينة، ودقت الساعة الخامسة…….ونهض النهار.

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.