الرأي العام المُكَهرَب

بقلم: عبد الله الحمداوي

الفراغ الإعلامي… هيكلٌ عظمي يتراقص على شذى الرياح الصحراوية.

لعبارة “معنَى الكلمات، تصادم الصور”، المقتبَسَةِ من باريس-ماتش الفرنسية، معنىً غيْرُ مُفَهْرَس. ذلك لأنَّ واقع الحال يفرِضُ قراءةً مُرْتَكِزَةً على رُؤْيةٍ فكريةٍ ونقديةٍ رهينةٍ بتحديات الواقع المعاش. فما بين وسائِطِ التَّوَاصُل الاجتماعي، المتقوقِعَةِ على عرْشِ الفبرَكَةِ الاجتماعيةِ لحَيَاةٍ غُبَارِيَةٍ من نوعٍ آخر، والرأْيِ العام ذي الجذور المنغرسة في مزهريةٍ مشقوقةٍ من قَبِيل هَيْئَاتِ المجتَمَعِ المدني الخالقِ فجوَةً، في رأيي، بين الكلمَتَيْنِ البدائيَتَيْنِ اللَّتَانِ تبدآنِ بحرْفِ “المِيمِ” المَالِّ كُلَّ تَأْهِيلٍ لُغَوِي)، وسائِلِ الإعلَامِ الغُرَابِيَّةِ بريشها الأسود التي لا تَكَلُّ من نَهْش جُثَثِ الأغْلِفَةِ النَّمِيمِيَّة وما يُسمَّى في “عِلْمِ الغَبَاءِ” بِصُنَّاع القرار الاجتماعي والسياسي المشؤومين لِكَوْنِهِمْ كراكِيزَ قُمَاشِيةً بربطاتِ عُنقٍ تزِيدُ مِنْ حِدَّةِ الاخْتِنَاقِ الإنساني الذي يعانونه، نرى رابطة وثيقة مربوطةً عُقْدَتُهَا بأيدي الأبدية الزاجلة.

 السوسيوبربرية… 

أولاًّ وقبْلَ كُلِّ شيء، تجْدُرُ الإشارة إلى أنّنا، بالرَّغْمِ من كَوْنِنَا خارِجِينَ عن القانون العولمي، نَعِيشُ في رواق ما يُعْرَفُ اليوم “بمُجْتَمَعِ المعرفة” و”مجتمع الصورة”. هو تَلْخِيصٌ سَطْرِيٌ لأزمَةِ المعاني والمدلول. نتكَلَّمُ عن نِتَاجِ ثَلاَثَةِ كَبَائِرَ ثورية: ما بعد الثورة الصناعية الثالثة (اقتصاد الخدمات اللاَّمادية)، العولمة الثالثة والثورةُ الرقميةُ السابقَةُ لأوانها. 

وعليه، يظُنُّ البعْضُ أن ثورة القرن الواحد والعشرين ليست ثورة الاتِّصَال، وإنَّما ثورة التواصل، ليست ثورة الرسالة، بل ثورة العلاقة، ليست ثورة التصادمات العلائِقِيَةِ الجَدَلِيَةِ، بل ثورة الاتِّفَاقَاتِ الانسانية، ليست ثورَةَ الإهمال، بل ثورةَ الإدماج، ليست ثورَةَ الدُّوَل، بل ثورة البشرية. خلَقَتْ هذه الأخيرة سِلَاحاً تكنولوجياً فتَّاكاً سمّوْهُ “مواقع التواصل الاجتماعي” والذي كانَ الهَدَفُ من تصمِيمِهِ البَدْئِيِّ إزالةُ العقباتِ الجغرافية وَمَسْحُ العوائِقِ العازِلَةِ لِصَوْتِ التَّوَاصُلِ الكَوْنِيِّ. ما شكَّلَ، في وقتٍ ما، جسراً يَرْبِطُ بين كافَّةِ بِقَاعِ العالم متجاوزاً بذلك وَهْمَ الجنسياتِ المتداوَلَةِ والعَمَلِيَّة. إلاَّ أنَّ مادِيَّةَ الرأسمالِ البشريِّ جَعَلَ منها محطةً تَخْدُمُ صالحَ ومصالحَ الأقلِّيَّةِ التي تتحكّم بزمام الأمور بِقُفَازَاتٍ مطاطية تُرْمَى في القُمامة الطبية بعد ارْتِكَابِ الجُرْمِ المَكْتُوب. ماهِيَةُ التأثيرِ التكنولوجِيِّ والبرمجةِ الجماهيريةِ في هذه الصيغة، عِبَارَةٌ عن شهادةٍ يوميةٍ لما أصبَحَتْ تُرَوِّجُ له تلك البوابات الخدماتية من حياةٍ وهمية زائفة. بترجمةٍ سوسيوبربرية، وهو اِسْمٌ أُطْلِقُهُ على المفرقعات الحَيَّة لهُرَاءِ التَّقْشِيرِ المَوْزِيِّ لِمَعْدِنِ الحَدِيدِ المُقَطّرِ بالنُّحَاس، يُقَالُ بأنَّهَا عَالَمٌ افتراضي متمثِلٌ في الحيَاةِ الرقميَّةِ التي أصبحت ملجأً للأغلبية من مخالِبِ حياةٍ واقعِيَّةٍ تَنْهَشُ أرواحهم. ويَقَعُونَ في الفَخِّ المنصوبِ بطريقة قديمةٍ كتِلْكَ التي كانوا يصطادون بها الدِبَبَةَ القُطْبِيَّة، لِيُصْبِحُوا “تائهين في الترجمة العالمية”. وكما قالت كاتِبَةٌ ما: “المأساةُ فكرية لا لغوية. إنها في المضمون لا في القالب”.

رحلةٌ بلا عودة…

تمَّتْ سِيَاقَةُ الرأيِ العامِّ إلى جُرْفِ اللاَّعودة والخداع. أي بمعنى غطرسَةِ الخداع المُلَازِمِ لِمَرَضِ القَرْنِ النَّاحِتِ لِرَقْمِ مُعاملاتٍ بَلْيُونِيٍّ. إن أخَذْنَا مثالَ “الهيمنة الجماعية” التي تُجسِّدُ لمَبْدَإِ كلمةِ الحَقِّ المطلوبة صرخاً على شفاهِ جماعةٍ ما بأصوات فيسبوكية مُتلعثِمة في مُقْلَةِ رؤيةٍ مُضْمَحِلَّةِ الأبعاد وتغريداتِ العصفور الأزرق المثقوبِ المنقار وصورأً إنستغراميةً لأجساد بني عُرس (المرجو البحث عن اسم رفيق الدَّرْبِ الافتراضيِّ هذا في المعجم أو القاموس العربي)، نَجِدُ أنَّ الرأيَ العام أصبح نقطةً كلمتريةً على الهامش الأحمر في خِضَمِّ الصراعِ الاجتماعي. حَمْلَةُ المقاطعة التي شهدها بَلَدُ الأسُودِ المرسومةِ على جريدِ النَّخْلِ، أسرَّتْ بأنَّ شركاتٍ جانيةً بِحَقِّ المواطن، حسب إيمان هذا المواطن، تُداوي ندوبها وتُلَمْلِمُ رِيَالَاتِ خسارتها المادية والاسمية (المساسُ بشُهْرَتِها وصورَتِهَا التَّسْوِيقِيَّة). بِفِعْلِ هذه الرؤية العمياء، أصِيبَ المنطق بأزمةٍ قلبية أَوْدَتْ بحياته. إثْرَ هذا المصابِ الجَلَل، بقيَتْ بلادُ الأسودِ الكرتونيةِ يتيمةَ المنطق. أعلَنَتْ أسئلَتِي حَرْبَ عُقُولٍ دامية: من بدأ تلك المسرحية ومن أنهاها؟ فلا يُمكن أن يخبُوَ لهيبُ نارٍ غابويةٍ أتتْ على اليابس والأخضر بين عشيةٍ وضحاها. من أعلَنَ عن تفاصيل الحملة وأهدافها ودوافعها؟ من كان الرَّابحَ الأساسي من وراء هذه المناورة الإعلامية؟

عِلْمُ الإشاعة الكلامية… نميمةٌ رجولية من نوعٍ آخر. 

يقال في إشاعةِ الضوضاءِ الرقمية، أن الحَمْلَةَ بدأَتْ مِنْ صفحةٍ فيسبوكيةٍ ما ليتراكَبَ الجَمْعُ والجُمُوعُ راكبِينَ خَيْلَ الهروَلَةِ الصَّمَّاءِ المنطق بتَوَالي الاشتراكات والنشر على صفحات النِّضَال المتكافِلِ بِشَتَّى أنواعها وصَرِيرِ أبوابِها. مِمَّا أدَّى إلى وضْعِ الرأي العام جَانِبَ الصورة وأَخْذ الشَّعْبِ لِقِوَى هيئةِ الفَصْلِ بيديه العاريتَيْنِ. أما الحقيقة، فالإعلام هو صاحِبُ كَلِمَةِ الفَصْلِ والوَصْل. كلُّ شَيءٍ، تمَّتْ كتابَةُ سيناريوهاتِهِ وتواريخِ أحداثِه تَحْتَ وَقْعِ تراطُمِ أكواب الشمبانيا الإكسيرية في قاعة أوروبيةٍ مستديرةٍ بحضور فراعنَةِ مصر القطبية. وتبقى الأسئلة طريحة الفراش بسبب الحُمَّى الشتوية إلى حين. مَنْ خَلْفَ ماذا ولماذا هذه البروهاها الإعلامية؟

وسائط التشرُّد الاجتماعية المتعدِّدة.

الغرضُ مِنْ ضبطِ الرَّأْيِ العامّ على مُنَبِّهِ وسائِطِ التواصُلِ الاجتماعي، محورَتِه، مأسستِه ومَشْكَلَتِه هو قولَبَةُ نِظَامِ المجتمع كعجين الأطفال المُلَوَّن والحَدِّ من تفشِّي ظاهرةِ السَّخَطِ الاجتماعي حسب آراءٍ شخصيةٍ لا تعدوا أن تكون تشخيصيةً لحالةٍ غير موضوعية. يتجلَّى الطائِلُ السَرابِيُّ في خَلْقِ دولةِ الحَقِّ والقانون الإعلامية التي تهدِّم صَرْحَ الرأسمالية، الزبونية والعمالة المحسوبية المفروغ منها في عالَمٍ يلحَقُ بِرَكْبِ أهْوَالِ العُمْلَةِ النقدية والرِّبْحِ المادِّي. 

لنقل أنَّه بتظافر الجهود المستنكرة للواقع المعاش على وسائط التواصل الاجتماعي، بوضع رقابةٍ قانونيةٍ تَهُمُّ المحتويات المتداولة والمنقولة وإدماج الكل في إعادة تعريف ماهية الرأي العام، يمكن آنذاك تأْبِينُ عصور الظلمات ومسايرَةُ ركب القرن الواحد والعشرين الذي لا زال يفرُّ منَّا بخطى عملاق. نحن، في هذا الصدد، بحاجة لاستراتيجيةٍ شاملةٍ وشموليةٍ تتأسَّسُ على ثلاثَةِ هياكل: الترابط والتكافل الاجتماعي فيما وراء الشاشات الزرقاء، وسائط التواصل الاجتماعي المصاغة بكلمة صُنَّاعِ القرار الدولي المتمكِّنِينَ من الأسئلة الآنية تحت لواء الصالح العام وخلق فضاءٍ للتبادُلِ والحوار وتضارب الآراء واختلافات الرأي. وتبعاً لذلك، يجب إقصاء المعضلات  في قصٍّ جماعيٍّ لأظافرها المتطاولة على حريتنا الفردية والجماعية: غياب تأطير اجتماعي مُتماسك البُنيان، تفشِّي ظاهرة “الأنا الرقمي”، غياب الوعي الثقافي، انعدام التربية الحداثية المتضمِّنَةِ للمعرفة القَبْلِيةِ والكلاسيكية لأُسُسِ العيش ضمن “مجتمعٍ” ما، وجود خندق تواصليٍّ بين الأجيال، الاستغلال اللَّامحدود واللَّامشروع لمواقِعِ التواصُلِ الاجتماعي من طرف عمالقة الاقتصاد وصغاره، على حدٍّ سواء، في هيمنةٍ عشوائيةٍ ومُنظَّمةٍ للرأي العام الذي يشهدُ بِعَدَمِ تفعيل آلياته وغياب نُظُمِهِ الدَّلَالية.

حاجزٌ أمني من نوعٍ آخر.

للنهاية، يمكن إضافة ما يسمى “بالسيادة التضامنية” التي تُشكِّل عامِلَ تحوُّلٍ اجتماعِيّ. وَيُمْكِنُ صياغَتُها كالآتي: 

– سيادة السلطة. 

–  سيادة الاقتصاد المقاوِل. 

–   سيادة الشعب. 

–   سيادة الرأي العام. 

–   سيادة وسائط التواصل الاجتماعي. 

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.