كما يسري الدم في العروق

بقلم: تسنيم زهران حسن عبدالله

نتوقف كثيرا عند بعض النصوص الشعرية مدهوشين ومشدوهين، أيُّ حسٍّ امتلكَهُ الشاعرُ ؟ أيُّ دفْقٍ ‏عاطفيٍّ شعرَ به؟ أيُّ مَلَكَةٍ قادَتْ قلمَه وجعلَتْ قصيدتَه بهذا السّبْكِ المتقنِ والمضمونِ البديع؟

‏ويزدادُ الإبداعُ بريقًا ككوكبٍ دُرّيٍّ حينَ يكونُ عن الوطن، تلكَ البقعةُ التي جُبِلْنا من طينِها ، وكَوّنَتْنا ‏عنايةٌ إلهيةٌ حتى صرْنا مخلوقًا بشريًا يستوي على سوقِه ويدبُّ فوقَ أديمِ الأرضِ دَبًّا ، تلك البقعةُ التي تعودُ ‏فتحتوينا مرةً أخرى وأخيرةً ، عندَ غفوتِنا الأخيرة عند الموت.‏

يتوقفُ القارئُ أمامَ قولِ عبداللطيف عقل:‏

‏     ” أنا جذرٌ يُناغي عُمقَ هذي الأرضِ

‏      منذُ تكَوّنَ الأزلُ

‏      وكوّنَ لحمُها لحمي “‏

‏      أيُّ حبٍّ هذا ؟ بل أيُّ التحامٍ مع الأرضِ؟

ويرفضُ “عقل” دعوةَ صديقِه للهجرةِ خارجَ فلسطين ، فيقول:‏‎

‏” أنا نبضُ الترابِ دمي فكيفَ أخونُ نبضَ دمي وأرتحلُ؟ ” ‏

إنّ اعتبارَ حبِّ الديارِ متغلغلًا في الشرايينِ والأوردة حتى الفؤاد ، لهُو أصدقُ العواطفِ وأسماها ، وإنّ ‏اعتبارَ الهجرةِ من الوطنِ خيانةً لهُو أقوى التعابيرِ وأوفاها .‏

ويزيدُنا بدر شاكر السيّاب تعجُّبًا ، وهو الذي ذاقَ مرارةَ الاغترابِ عن العراقِ مراتٍ ومرّات، فتراهُ ‏يتعجّبُ – حدّ الاستهجان- من أولئك الذين يخونونَ أوطانهم، فيقول:‏

‏” إني لأعجَبُ كيف يمكنُ أن يخونَ الخائنون

‏   أيخونُ إنسانٌ بلاده؟

‏   إنْ خانَ معنى أنْ يكون ، فكيفَ يمكنُ أنْ يكون؟”‏

يا الله ، الوفاءُ للأوطانِ وفاءٌ للنّفسِ ووجودها ، وخيانةُ الأوطانِ خيانةٌ للنفسِ ووجودِها ، ولهذا ما معنى ‏وجودِك وأنتَ خائنٌ ؟ إنّكَ نكرةٌ بلا قيمةٍ ، وإنّكَ صفرٌ على الشمالِ – كما يقول أصحابُنا الرياضيون- . ‏

ونكادُ نسمعُ صراخَه في ثنايا الكلماتِ ، وهو يتمنّى أنْ يعودَ للعراق ، فيقول: ‏

‏” إنْ يكتبِ اللهُ لي العودَ إلى العراق

فسوف ألثمُ الثرى

أعانقُ  الشجر

أصيحُ بالبشَر:‏

يا أرجَ الجنة ، يا أخوة ، يا رفاق ْ

الحسنُ البصريُ جابَ أرضَ واق واقْ

فما رأى أحسنَ منه عيشًا في العراق”‏

إنَّ هؤلاء يبرَعون في جعلنا نتشاركُ معهم هذا الشعورَ في حنايا الجدران ، إنّ هؤلاء يُشَكّلونَ في أدمغتِنا ‏اعتقادًا لا ينمحي ، نعم ، إنّها الأوطان ، وإنها غالية ، وإنّ حبَّها يسري فينا كما يسري الدمُ في العروق.‏‎ ‎‏ ‏‎

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.