أنا من خريجي المنازل

سرقت كورونا أجمل ما نملك، أصبحنا ضحايا لمرض فتاك، تشبث بين ثنايا الأحلام، الطرقات التي كانت تضج بالحياة أصبحت كالأشباح، سيشهد التاريخ أن كورونا أرعبت العالم كالحروب والمجاعات، واستكملت هذه المرحلة بحرماننا من حق التخرج بشكل طبيعي كما هو حال جميع من سبقونا في الدراسة الجامعية. 

 طالما سبقنا عمرنا بأحلامنا، أطفال كنا نحبو للوصول إلى مرحلة الجامعة لنشعر بلذة النضج، كل منا يجدف في بحر من الميول والرغبات، لتقترب نقطة المرسى، فكانت المرحلة الثانوية العامة التي اجتزتها بمعدل 91.4 محطة عبوري إلى الجامعة، اتجهت إلى تخصص العلاقات العامة والاتصال رغبة مني؛ لقناعتي التامة بأهمية هذا المجال، لا سيما في ظل التطور الهائل الذي نعيش به، بالرغم من الانتقادات التي وجهت لاختياري هذا التخصص لعدم المعرفة التامة به، والإشاعات بمحدودية وجوده في سوق العمل، لكنني سرت وراء اختياري وكلي أمل بما أريد.

ما بين التحمس والخوف، الرغبة والتردد، كانت البداية أشبه باللغز، ذاك المكان الواسع الذي يعج  بالكثير من الزملاء، المباني، التعب والغموض، الإنجازات، مرحلة جديدة، لحظات التعرف التقليدية، زملاء المقاعد،  الأساتذة، أول محاضرة، ابتدأ الجد، تاريخ العلاقات العامة ومبادؤها، أصول الكتابة، بين هذه وتلك، اتسعت لدي مفاهيم كثيرة، أعجبت بالتخصص أكثر، تأكدت من صحة اختياري، وأنني أسير في الطريق الصحيح، مع مرور الأيام تكونت الصداقات والمعارف، وهذا ما يلائم شخصيتي، فأنا اجتماعية بطبعي، وكانت من أولى ملذات العلاقات الاجتماعية التي ما زلت أذكرها الرحلات التي قمنا بها في مساق التصوير الصحفي الذي جمع  بين النظرية والتطبيق، لكن أغلبية مواد السنة الأولى كانت نظرية، شكلت بنية أساسية لدي لفضاء العلاقات العامة، رغماً عن لحظات الضعف والاستسلام، الضغوط والامتحانات، فالإصرار والعزيمة طريق النجاح.

سرعان ما أصبحت جزءاً من المكان، أشعر بانتمائي له، المساقات العملية كالمشاريع والتخطيط الاستراتيجي الإعلام الاجتماعي، وإدارة الحدث، وطدت علاقتي بالتخصص وزادت ثقتي بنفسي، ساعدتني على فهم عمل الشركات، كيفية إظهار نفسها بصورة إيجابية، وخطواتها في إدارة الأزمات، أدركت الفرق بين الدعاية والإعلان والتسويق، لم تكن تلك المساقات سهلة ولا صعبة حد المستحيل،  لكن الأهم الخبرة التي تكتسبها منها، من أكثر المساقات التي حققت بها إنجازات على أرض الواقع هي العلاقات العامة: استراتيجيات وحملات، قمنا بإطلاق حملة #شيء-مفيد-بالكوفيد، وهي من مبادرتنا، كانت تجربة جميلة تعطي الفرصة لتعزيز المهارات والاهتمامات، والعمل ضمن فريق، عدا عن مواد اختياري التخصص التي وسعت الأفق لدي وزادت يقيني بأن العلاقات العامة  ليست مجرد وظيفة أو علم، بل هي طريقة للحياة، وأسلوب للتعامل، وبدونها ستبقى المؤسسات عاجزة عن النجاح.

 لم تكن نهاية السنة الثالثة كغيرها من السنوات، تغيرت الأحوال وأصبحت الدراسة عن بعد، بسبب ظروف قاهرة احتلت العالم بأكمله، ألا وهي وباء الكورونا كوفيد-19، الكثير من التوتر والغموض، عدم الاستقرار والارتباك، أن تشعر بأنك بعيد عن مكانك، ليس لديك أدنى فكرة عن القادم، إشاعات في كل مكان، انتظار آخر التطورات، لم يكن الأمر سهلاً في البداية، استخدام تقنيات التعليم عن بعد كتطبيق زووم، بديلاً عن التعليم الوجاهي، والكثير من المعيقات التقنية، انقطاع الكهرباء، التسيب والاتهامات، نقلة نوعية لم تكن بالحسبان،  لكن مع الوقت تخدرت الآمال، تحدينا الصعوبات، كان لزاماً علينا أن نقف متحدين نواجه هذه الظروف لاستمرار العملية التعليمية، لكن المدة طالت، واقتربت نهاية حكايتي بالجامعة في ظل هذا الوباء، لا بد أن كورونا سرقت أجمل وآخر لحظات الجامعة، ويتمت فرحتنا لتبقى تلك الأيام حسرة في قلوبنا نحن خريجو الكورونا.

ها أنا الأن في الفصل الأخير ألوح من بعيد، أودع كليتي، أساتذتي، زملائي، أدون لمساتي الأخيرة بين ماضٍ من الذكريات ومستقبل من الطموحات، أغلق الصفحات وألملم ما تبقى من تنهيدات، أنا مدين لتلك السنوات بتفاصيلها السيئة والجميلة، لكل كلمة ومعاملة أسعدتني وأحبطتني، فقد منحتني كماً كبيراً من التجارب والخبرات، أهدتني أجمل الرفاق، أيقظتني على عالم مليء بالتحديات، جعلت مني شخصية مثابرة، مفاوضة، جريئة وتتحمل المسؤولية، باحثة عن المعرفة، عززت قدرات عقلي النقدية، طورت مهاراتي الكتابية، وأضافت لقاموسي اللغوي مجموعة من المفاهيم والمصطلحات، العلاقات العامة لم تكن مجرد تخصص تعلمته فهي بوصلتي في هذه الحياة.

تنتهي حكايتي مع النجاح، بانتهاء تدريبي العملي بوحدة التوظيف وشؤون الخريجين في جامعة النجاح الوطنية والذي يعتبر حصاد السنوات الأربع، يتطلب التدريب ممارسة عملية جادة؛ وذلك لتطبيق كافة النظريات، آملة أن يكون التدريب أولى محطاتي العملية للارتقاء لمرحلة العمل، وأن يفتح لي أفاقاً جديدة للدمج الناجح بين النظرية والتطبيق، في ظل هذا الوباء اللعين.

بقلم: هند الخليلي

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.