العربية إنسانية

بقلم: أمل صدقة

‏الوصول للقلوب ليس سهل المنال، وتَفهم الأحوال ما عاد بالشيء المستطاع، غير ‏أن قوام اللسان أمرٌ يقربك من الاحتواء، وهذا لن تجده إلا بالعربية وحروفها التي يُشهَدُ ‏لها بالرقي الإنساني، حتى من العلماء غير الناطقين بها، فَلِمَ يشهدُ لها بهذا الرقي؟

وبإجابة كافية، شافية، وافية أستطيع أن أقول؛ لاتسامها بخصال تنفرد بها عن غيرها، ‏فمن أكثرِ خِصال العربية رونقاً  مناسبة الحروف لمعانيها فالغين مثلاً حرف يفيد ‏الاختفاء، وعدم الحضور، فمتى كان الغين حاضراً في كلمة،  طغى على الكلمة إحساس ‏الغياب، فلا عجب أن يدنو منك إحساس الاستدارة والاختفاء، كلما علا حلقك صوت ‏حرف الغين، ونطقت غاب، أو غَرَبَ. أجل هي حروف صماء، لا تتحرك، غير أنها  ‏مرهفة الإحساس تجمع حروفها، وتشكل كلمات تفهم مشاعرك المدفونة داخل أحشائك، ‏وتتعاطف مع حالتك التي أنت فيها الآن، فتخرج لك كلمات متبوعة بعبارات، تطفىء ‏لهيب قلبك الثائر داخلياً، فبعد أن ينطفىء ذاك اللهيب يتلهف فؤادك لكل شيء يقاس به ‏الإحساس،  لتكن ضالته كل كلمة تحتوي على حرف السين، فالسرور والأنس، والسر ‏كلمات تفرقت السين فيها، إلاّ أنها  أجمعت  على وجود إحساس قوي فيها، ولا إحساس ‏أقوى من ذلك الذي تشعر به عندما تقرأ آية  جامعة لأكثر مواضع السكينة في سورة ‏التكوير” والليل إذا عسعس، والصُبحِ إذا تنفس”  فسحر الليل سكينة، وتنفس الفجر، ‏محطة أنس أُخرى، فما أجملَ صوت السين حين يتماهى مع إحساسك! ويركّب لك ‏كلمات شتى، أختصرها بإحساس حرف السين في كلمة الإنسانية!‏

ولو أسهبت في معنى كل حرف لَما انتهيت، ولكنني سأتتبع معنى حرف الراء الذي يفيد ‏التكرار، وأبقى أكرر العربية إنسانية تأسرُ قلوب البشرية.‏

ولعل لنا  في الاشتقاق دليل وبرهان من نوعٍ آخر ، يؤكد تشرب اللغة العربية ‏للإنسانية ببراعة عالية، فنظام الأُسرة التي تتكىء عليه العربية بموادها، وأفعالها، ‏وصيغها بالأوزان المتعددة، تشكلُ عشرات بل مئات الكلمات التي مهما اختلفت بنيتها ‏ومعناها الصرفيّ، يعود أصلها لجذر واحد، يؤلّف _ بعلاقاته الإنسانية الممتدة_كلمات ‏شتى، لتتفرد بذلك عن باقي اللغات الفقيرة إلى  تلك الأواصر الإنسانية، التي تمنحها ‏الترابط والتعاضد، ولو  قسنا ذلك على الفِعل” كتب”، لوجدنا  الأشياء المرتبطة بالفعل ‏ذاته، مشتقةٌ منه “مكتب”، “كتاب”، أما  في الإنجليزية مثلاً فيقتل الترابط، وتختفي ‏العلاقة الاجتماعيّة بين  الكلمات  فيغدو الفعل”‏Write‏” وما يرتبط به “‏Book” ,“ ‎Office‏” كلمات لا يؤلّف بينها في اللفظ رابط.‏

هذا ناهيك عن احتواءالصيغ الاشتقاقية لصيغة فاعَل التي تُفيد المشاركة ً التي تلبي ‏حاجةً أساسية للنفس البشرية، ذات الطبيعة الإنسانية التي تتفهم الآخر، وتمنحه التجربة، ‏وهذا ما تفتقر إليه سائر اللغاتِ غيرها؛ كونها – بموجب هذه الصيغة-  تسمح للفاعلِ أن ‏يكون مفعولاً به، والعكس صحيح.‏

‏   والعربية تشبعُ أيضاً رغبة الإنسان في التميز عن نَظيره ولو كان توأماً له،  فبِخصلةِ ‏الإعراب تتحقق الرغبة تلك، فشتان بين البِر، والبُر، والبَر، ثلاثٌ مجتمعاتٌ في الشكلِ، ‏متفرقاتٌ في المعنى، فبسبب الحركة الأقوى بينهن (الكسرة) تحقق معنى الإحسان، ‏والتي تليها قوّة (الضمّة) أُريد بها معنى القمح، وبأضعفهنّ (الفتحة) أصبح القصد  ‏اليابسة نقيض الماء، وقس على‎ ‎ذلك كثيراً من الكلمات الأخرى أُورِد منها على سبيل ‏المثالِ لا الحصر خَلْق، خُلُق، خَلِق، فهي بتسكين  اللام تعني  البُنية، وبضمها يصبح ‏المُراد الصفات، وبقلّب حركة عين الكلمةِ ذاتها من ضمة إلى كسرة يصبح المعنى المراد ‏الإهتراء بفعل كُثرِ الاستخدام.‏

ولن يتوقف حرص العربية على التشربِ الصحيح لمعاني الإنسانية التي تحتوي ‏الجميع، مع إعطاءِ كُلَ ذي قَدرٍ قدره عند الأسماء بل يتعدى ذلك ليشمل الأفعال بشقيها ‏المزيدة والمُجردة، فعندما نتعامل مع مادة خرج  يكون المصدرُ منها مَخرج، وبمجرد ‏زيادة الألف ليصبح الفعل رباعي مزيداً بحرف؛ للدلالةِ على أن الفعل لن يكون بمحض ‏إراداة الإنسان، بل كان هناك من يُحركه ويدفعه للقيام يصبح المصدر مضموم الأول” ‏مُخرجَ” فكُل زيادة في المبنى يرافقها اختلافٌ في المعنى والتشكيل، فالعربية لا ترضى ‏لقارئيها أن يكون وزن  أحمد كمحمد!  فما دام الوزن الصرفي يشيرُ لاختلاف ولو ‏طفيف يُعطى هذا الاختلاف اهتماماً يحفظ له هويته ومكانته، ولا أدل على ذلك قول الله ‏جل جلاله في محكم التنزيل” ربي أدخلني مُدخل صدق، وأخرجني مُخرج صدق” فلم تكن الميم ‏في مدخل أو مخرخ مفتوحة حتى لا تفهم أنها مشتقة من فعل ثلاثي، والصحيح أنها ‏مشتقة من أفعالِ رباعية مزيدة بحرف وهي أدخل وأخرج، فالضمة حفظت للأفعال آنفة ‏الذكر حقها الذي يميزها عن كلمة مَخرج المشتقة من الفعل الثلاثي خَرجَ.‏

ومن هنا نستنتج أن قارىء العربية يفهم ليقرأ صحيحاً، على نقيض بعض اللغات ‏الأجنبية الرائجة في عصرنا الحالي التي تقرأ فيها لتفهم، وتقديم الفهم على القراءة بحد ‏ذاته إنسانية تُكرم الإنسان، وتحترم كينونته، فما يميز الإنسان عن غيره العقل الذي ‏بسببه نفهم الأشياء، ويمكّننا من أخذ القرار بالتخيير لا بالتيسير، وهذا ما تتيحه لنا ‏نصوص العربية، بتطلب فهم سياقها من أجل الضبط الصحيح لإتمام المعنى، لا إفساده.‏

‏ولا أبالغ عندما أقول: إن العربية وصلت إلى أرقى مستويات الإنسانية بفعل اتساع ‏تعبيرها الذي يُحاكي المشاعر الإنسانية. أجل، إنها لغة، غير أنها مرهفة الإحساس فكل ‏كلمة فيها تجسد شعور داخلي لناطقها.‏

وأوجز ما سلف باستشعار العربية لمشاعر النظر التي تصاحب الإنسان، فإذا كانت ‏العملية اعتيادية أي بالعين، ومجردة من المشاعر يكون الفعل الأنسب لها ” نظر” أما إذا ‏نظر بقلبه يكون الفعل المناسب رأى، وإذا نظر بمحبة للشيء، يصبح الفعل المناسب ‏للتعبير حدّج، ولذلك يقال” حَدث القومَ ما حدجوك بأبصارهم”، أما إذا نظر الإنسان ‏باستمتاع، فالصوابُ أن يعبر الناظر عن مشاعره بالفعل” رنا” وإذا نظر مع تمطٍّ- رفع ‏القدمين- يقال عن الناظر في هذه الوضعية أنه استشرف الشيء المنظور إليه، وإذا نظر ‏مع وضعية لمس – تحريك اليدين- فالتعبير الأمثل هنا هو “استشف”، أما النظر على ‏عجالة يسمى ب ” اللمح”، وآخر ما أذكره في مشاعر النظر هو الخوف، فإذا لازم  ‏الخوف النظر فإن الفعل الملائم لإيصال تلك المشاعر هو “شَخَص”.‏

كما أن حركة العين عند حصول هذه العمليات تسمى بتعابير مختلفة، فمثلاً إذا اتّسعت ‏حلقة العين عند النظر، فيقال عن الناظر حينها أنه ” بحلق” أما إذا اتسع حملاق العين ‏الأحمر تحت جفن الناظر عند النظر يقال عنه أنه” حملق”.‏

‏ فكيف حالُ قناعتك الآن من إنسانية العربية؟ أأرهقتك الحجج والبراهين التفصيلية؟ لا ‏تقلق، فإني من هنا أجزمُ لك أن العربية ضالة للذي يهوى التوسع، والاختصار، فالأولى ‏كنا قد أوضحناها بشيء من الإطالة فماذا عن الثانية؟

يتمثل قرب العربية ممن يهوى الاختصار والإيجاز بخصال فريدة تتميز بها العربية عن ‏غيرها، ويأتي في مقدمة هذه الخصال بأنها تملك أوسع مجال صوتي يؤهل  الحرف أن ‏يكون في النطق حرفين أحياناً،  فالسين صاد مرققة، والصاد  سين مفخمة، والدال ضاد ‏مرققة، والضاد دال مفخمة، والتاء طاء مرققة ، والطاء تاء مفخمة.‏

غير أن هذا ليس الشكل الوحيد الذي تقترب فيه العربية ممن يفضلون الاختصار ‏والسرعة في الكلام، بل توفر لهم اشتقاقاً يسمى ” كُبّار” يختصر تسمية بعض العمليات، ‏فبدلاً من القول: ” فلانٌ قال سبحان الله”، يقال: ” فلانٌ سبحلة”‏

وبدلاً من: “إنا لله وإنا إليه راجعون” نقول: ” فلانٌ استرجع”، وعليها يقاس

‏” حوقلة” و”دمعزة” و” حيعلة”وغيرها الكثير.‏                               

وهناك أسماء بالعربية تعني شيئين متناقضين في المعنى، فأن نقول مولى فالمعنى ‏يحتمل السيد والعبد، ولا شيء يمنع أن تُوجِز  تعبيرك بمن يبيع ويشتري  بقولك

‏” فلانٌ يشري” لأن يشري تحتمل المعنيين.‏

‏وبالمحصلة تلك فإنني لا أبغي تنميقاً ولا تحسيناً، فقيمة العربية ورقي إنسانيها بَينٌ لا ‏يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنّع، فعندما تحتوي العربية بمعجم لسان العرب وحده ثمانين ألف ‏مادة، في كل مادة من ثلاثين إلى أربعين لفظة على الأقل، في المقابل يصل مجموع ‏الألفاظ في بعض اللغات الأجنبية ما يُقارب خمساً وعشرين ألف لفظة! وهذا وحده كفيل ‏أن نتفكر للحظة بتشريف الله – جل جلاله-  العربية لغة للقرآن، فهل يا ترى سيجد قول الخليفة ‏الأموي عبد الملك بن مروان:‏

‏” أصلحوا ألسنتكم، فإن المرء تنوبه النائبة، فيستعيرُ الثوب والدابة، ولا يمكنه أن ‏يستعير اللسان، وجمال الرجل فصاحته” آذاناً صياغةً تمتثل أوامره؟!، وتؤكد صحة ‏لسان عمر بن الخطاب  رضي الله عنه‎ ‎عندما قال:‏

‏” تعلموا العربية فإنها تزيد المروءة”؛ لتتيقن بعدها أن من حفظ للعربية إنسانيتها ساد، ‏وغنم، وانتصر، ومن أهملها هان، وضعف، وافتقر.‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.