ما أكاد أمسك بطير المثالية الجميل حتى أراه وقد تملص من بين يدي ليعود طائرا إلى السماء مغردا ناظرا إلي نظرة استهزاء قائلا من المستحيل أن تبقيني بين يديك لمدة طويلة، وإن فعلت فسرعان ما أنفض جناحي لأطير ثانية إلى حيث مكاني في السماء، إلى حيث سكني وراحة بالي، وما نزولي إليكم أهل الكرة الأرضية بين الحين والآخر إلا لأذكركم بأن الحياة ليست كلها منغصات وإنما يوجد فيها بعضا من صفاتي المثالية، فيها الفن والجمال والأدب والأخلاق، فيها الوضع المثالي الذي يريح النفس ويسعد البال، ولكن هذا يحتاج إلى جهاد وعمل وسعي باستمرار.
نظرت وتفكرت فأقريت بالحقيقة التي تقول أن الإنسان لا يستطيع أن يكون مثاليا في كل شيء، ولا يستطيع أن يعيش حياته دائما بمثالية، وهذا راجع إلى النقص الموجود فيه، إن لم يكن راجعا إلى النقص عند الآخرين والطبيعة من حوله. والإنسان أيضا لا يستطيع أن يقوّم اعوجاج الآخرين باستمرار، ولا يستطيع أن يغير من عقولهم وأفكارهم التي شبوا عليها، ولا يستطيع أن يبدل في ذوقهم وأخلاقهم ومعتقداتهم ، وإن حاول فلم ينجح، وإن نجح فلم يدم نجاحه فترة طويلة، وإن دام فسيقابل بالتململ والرفض والتذمر، علاوة أن ما يراه الفرد صائبا قد يراه غيره خاطئا، وما يراه الآخرون مثاليا قد يراه البعض وضعا مزعجا مملا، بل كيف ينشد المثالية وكل شيء حوله يتغير ويتبدل، وكيف يطلب المثالية وكل شيء معرض للموت والاندثار؟ فانظر مثلا إلى الحقل تحرثه وتزرعه وترشه بالمبيدات حتى إذا ما أتى أكله غزته جراثيم أتت عليه وأهلكته وجعلته في خبر كان. وانظر إلى الدار تبنيها وتتفنن في بناياتها حتى إذا ما استقامت على عمدانها وسكنتها أتت عليها عوامل الطبيعة من زلازل وحروب وبركان حتى تركتها كالرميم ليست الدار التي بنيتها، ولا الجمال الذي أسبغته عليها. وانظر أيضا إلى الصديق تصادقه، والحبيب تدانيه وتقربه، فما أن يطرأ سوء فهم أو خلاف بينكما حتى يصبح الصديق غريبا والحبيب عدوا كأنه لم يعرفك ولم تعرفه، ولم تنسج حوله الأحلام الظلال، ولم تقض معه الوقت الجميل كالأحلام.
وقس على ذلك البلد التي تعيش فيها، والمجتمع الذي تنتمي له، والرسل التي بعثت والرسالات السماوية التي أنزلت والعلاقات الاجتماعية التي إقيمت، والثقافة التي فترى الأجداد تعبت في العمل على بنائه والسعي في ترابطه وتوطيد العلاقات الاجتماعية بين أفراده وعائلاته وفئاته، وتشييد بناياته وعماراته ودوره وشركاته ومصانعه، وما هي إلا سنوات أو عقود حتى ترى المجتمع غير المجتمع الذي كان في الأحلام، ولا علاقاته الاجتماعية التي كانت أيام زمان ولا الرحمة التي كان يتسم بها أو المحبة التي كان يتغنى بها وما التغيير الذي حدث إلا بفعل مسؤول ظالم أو إنسان فاسد أو حاكم مريض جاهل، أو استعمار غاشم. وحتى المرء نفسه فهو يتعب على نفسه يهذبها ويحاول أن يرتقي بها تارة بالدين والإيمان وطورا بالعلم والفن والجمال فلا يراها إلا وانحرفت عن مسارها بفعل وجودها في بيئة ملوثة او تعاملها مع إنسان معطوب يفتقر إلى الأدب والأخلاق فتخرجها عن طورها أو يفقدها بعض جمالها فتضطر عندئذ أن تتعامل معه بطريقة ليس الطريقة التي اعتادت عليها وقضت السنوات الطوال وهي تتخلق بها وتمارسها. فكل شيء يتغير ولا يبقى على حال، وعندها قد يقف المرء مذهولا، يتساءل أين المثالية التي كنت أطمح لها وأين الحياة الجميلة التي كنا نعيش فيها، بل أين الصواب وأين الخطأ، وأين ما عمله الإنسان وتعب من أجله، وأين ما جاهدت الرسل لبثه بين البشر وتجسيد رسالة الله على الأرض، وأين ما بذل له الإنسان من ماله وروحه وعقله وهو يحاول أن يجسد صورة مثالية سواء لنفسه أو لغيره ، بل كيف نطلب وضعا مثاليا وعوامل الهدم من حولنا كثيرة ومتنوعة، سواء تمثلت في أفراد منحرفين، أو فاسدين ظالمين، أو شياطين ماردين ، أو جشعين طماعين ، أو كافرين مارقين. ناهيك عن الحروب التي لا تبقي ولا تذر، وعوامل الطبيعة من زلازل وأمطار وبراكين وعواصف وأوبئة وأمراض، كل العوامل بما فيها الموت تمنع من الوصول بالإنسان إلى وضع مثالي.
ناهيك عن أن الإنسان نفسه يتغير من فترة إلى أخرى، ويموت ويأتي غيره. إذن، وفي ظل مثل هذه الحقائق، فمن الأفضل للإنسان أن يخفض من سقف توقعاته ولا يطمح لوضع المثالي في كل الأوقات، وعليه أن يعيش حاضره ويكون موضوعيا أقرب إلى الواقع الأرضي منه إلى السماء العلوي. وعليه أن يعرف أيضا أن المثالية حالة مؤقتة سرعان ما تتلاشى وتندثر، وما كل ذلك إلا لتجعل الإنسان يحلم باستمرار، وينهض ويعمل ويتعب ويعرق ويجد من أجل أن يحقق ما يحلم به ويصل إلى الوضع المثالي الذي ينشده. فالمثالية هي في السعي للوصول إليها وليست هي في حد ذاتها، هي في الطريق التي نسلكها لنحصل عليها وليست هي الهدف النهائي في حد ذاتها. ولعل الحكمة من عدم وجود وضع مثالي في الحياة هو أن نظل نحلم ونأمل بالمثالية، ونظل نفكر في الوصول إليها، والتي بالسعي نحوها نجد ذواتنا وندرك قيمتنا ويصبح لحياتنا قيمة ومعنى، وذلك حتى نظل نسعى ونلهث وراء التطور والتقدم والرقي والسمو حتى لو كان عمر هذا السمو والوضع المثالي قصيرا.
وبالخلاصة، نستطيع أن نقول أن المثالية هي وجهة نظر خاصة، فبعض الناس يراها في الصحة والعافية، وآخر يراها في الراحة النفسية، وثالث يراها في الحياة الطبيعية التي يمارسها بمبادئه ودينه وأخلاقه وهو راض عنها. إذن فالوضع المثالي يظل نسبي، وهو يتغير بتغير الأفراد، وبتغير الظروف والأحوال والزمان المكان، إلا أن الحلاوة فيه أنه يجعلنا دائما نطمح إليه ونسعى للوصول إليه حتى لو عاش هذا الوضع لفترة قصيرة، فهو على الأقل أشعرنا بقيمتنا وعقلنا وطموحنا وبأننا بشر نحلم ونطمح ونجد ونسعى داما نحو الأفضل.
كاتبة وأديبة، ومحاضرة في قسم أساليب التدريس والدراسات العليا في كلية التربية/ جامعة النجاح الوطنية