الإدارة الناجحة وتطوير التعليم!‏

تدلنا المعرفة والقراءات في مجال الإدارة التربوية أن كل تطوير للتعليم قوامه تطوير في إدارته، وأن جودة التعليم ‏وفعاليته تكمن في كفاية الإدارة التعليمية وديمقراطيتها وتجددها، حيث أن الإدارة التعليمية هي الجهاز المشرف على شؤون ‏التعليم في الدولة، والمختصة برسم وتخطيط سياستها التربوية والتعليمية.‏

الإدارة التعليمية

وتعرف الإدارة التعليمية بأنها مجموعة المهمات التربوية المتشابكة التي تتكامل فيها الجهود وتتضافر على كافة ‏المستويات سواء أكانت على المستوى القومي المتمثل بوزارة التربية والتعليم، أو على المستوى المحلي المتمثل بمديريات التربية ‏والتعليم، أو على مستوى الجامعات المتمثل برئيس الجامعة وهيئته الإدارية، أو على مستوى المدارس التمثل بمدراء المدارس ‏ونوابهم.  وبالتالي فالإدارة المدرسية تعد جزءا من الإدارة التعليمية، وصورة مصغرة لفلسفتها وتنظيماتها واستراتيجياتها، وهي ‏القائمة على تنفيذ السياسة التعليمية بما يتفق وأهداف وزارة التربية والتعليم.  وتعرف الإدارة المدرسية بأنها كل نشاط منظم ‏يهدف إلى ضبط سير العملية التعليمية بما يحقق الأهداف التربوية وفق لوائح وزارة التربية والتعليم لتلك الدولة، والتي تنص ‏بشكل عام على تنمية الطالب جسميا، وعقليا، واجتماعيا، وعاطفيا، وروحيا، بحيث تخرج طلبة مؤهلين ناجحين ماهرين على ‏مستوى عال من العلم والمعرفة والمهارة ونضج في الشخصية. ‏

وشكل خاص، فالإدارة المدرسية بمفهومها الحديث لا تقتصر على مدير المدرسة، وإنما تتضمن كل من يعمل في ‏المدرسة من إداريين، وفنيين، وأعضاء الهيئة التدريسية، والعاملين، وقد تمتد لتشمل الطلبة وأعضاء في البيئة المحلية كالآباء، ‏وأعضاء في المجتمع المحلي ممن لهم اهتمام بشؤون التعليم كأصحاب المصانع ومدراء الشركات والمؤسسات وغيرهم.  وكذلك ‏الحال بالنسبة لقيادة الإدارة المدرسية، فمع أن المسؤول المباشر هو المدير، إلا أن القيادة الناجحة ما هي إلا نتيجة تضافر ‏الجهود المبذولة مع جميع العاملين في الإدارة المدرسية باعتبارها وحدة متكاملة.  ولكي يتحقق هذا الهدف، فلا بد من التنويه ‏على أهمية دور مدير المدرسة ومسؤولياته، باعتباره المسؤول الأول في الإدارة.  فالمدير هو المشرف على جميع أعمال ‏المدرسة وأنشطتها وسير العمل فيها، وهو الموجه لمعلمي مدرسته والعامل على تطورهم مهنيا، والمسؤول المباشر عن إشاعة ‏جو من روح التفاهم والانسجام والتعاون بينهم، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان المدير على قدر عال من الكفاءة والمعرفة وسعة ‏العقل والتفهم والتعاون والأخلاق والعلم بشؤون الإدارة وما يتبعها من اتخاذ قرارات إدارية تطويرية.  ولا يتم ذلك أيضا إلا إذا ‏كان على معرفة بالنفس البشرية وما تحتاجه من ثواب ودعم وتشجيع، ومعرفة بمفاهيم الديمقراطية التي تساعده على التعامل ‏مع المدرسين والعاملين بديمقراطية وعدل وإنصاف، وتفضيل مصلحة المؤسسة العامة على المصلحة الذاتية الخاصة، ‏ومصلحة المدرسين والطلبة على المصالح الذاتية المحدودة.  وبالتالي، فنجاح المدير في إدارته، يعني نجاح المعلمين في ‏عملهم، ونجاح المعلمين في عملهم يعني نجاح الطلبة في دراستهم، وهذا يعني الوصول بالعملية التعليمية التعلمية إلى مستوى ‏عال من الكفاية والجودة ونجاحها وتحقيق أهدافها.‏

من هو المدير الناجح

وإذا ما تساءلنا من هو المدير الناجح، وما الصفات التي يجب أن يتحلى بها لكي يجعل من المؤسسة التي يديرها ‏مؤسسة ناجحة، فنقول ـ وكما تفيد الدراسات التربوية في مجال الإدارة ـ بأن المدير الناجح هو الشخص القادر على إدارة ‏مؤسسته بكل كفاية ومهارة، وهو الذي يدرك أن التغيير الإيجابي في المدرسة ونجاحها لا يحدث ما لم يقم بدعم الموظفين ‏وأعضاء هيئة التدريس في المدرسة ومتابعة كل جديد.  كما أن التطوير لا يمكن أن يتم ما لم يتح للعاملين فرصة النمو ‏المهني والمشاركة في اتخاذ القرارات، وأن العمل المثمر لا يكون إلا إذا أشاع في مدرسته الجو النفسي المريح المبني على ‏الاحترام والتقدير وتوظيف الكفايات ووضعها في المكان المناسب، وآمن بمبدأ الديمقراطية والتعاون والعمل الجماعي أيضا.  ‏كما أن نجاح المدرسة وسمعتها لا يكونان إلا إذا قدر المتفوقين ودعمهم، وأشرك المبدعين واستفاد من خبراتهم وخاصة في ‏اتخاذ القرارات التطويرية، وذلك حتى يستفيد الجميع من إبداعهم وذكائهم الذي يصب في النهاية في تطوير العملية التعليمية و ‏نجاح المدرسة بشكل عام.‏

‏كما لا يمكن للمدير أن ينجح في مهمته ما لم يكن مديرا متفهما، مرنا في تعامله، واسع الصدر، بعيد النظر، ديمقراطيا ‏لا يظلم أحدا، ولا يهضم حقوق أحد، يشجع الجميع على العمل بحب وإخلاص ورضى وانتماء في جو يسوده الراحة النفسية.‏

‏والمدير الناجح هو الذي يقبل بمبدأ التطوير وإحداث التغيير، وإلا فهو يستطيع الاستمرار في موقعه ومركزه إن هو رفض ‏هذا المبدأ وقاوم التطوير، وحرص على إبقاء الوضع مجمّدا كما هو، وإبقاء الاشخاص المحيطين به هم هم، خوفا على مركزه ‏من أن يتزعزع أو يطير.‏

والمدير الناجح هو الذي يعمل على تشجيع الموظفين لأن يكونوا أعضاء منتجين مخلصين في عملهم، متطورين في ‏معلوماتهم، مستقلين في شخصياتهم، لأنه يدرك أن قوته الإدارية هي من قوة الموظفين، ولا يمكنه أن يكون قويا إلا إذا ‏احترمهم، ودعمهم، وعززهم، واعترف بكفاءاتهم، وشاركهم الرأي والرؤية في تطوير المؤسسة، وأشركهم في صنع القرار، بحيث ‏تتسلسل عملية اتخاذ القرار من أسفل الهرم المتمثل في أعضاء الهيئة التدريسية والموظفين، إلى قمة الهرم المتمثلة في الطاقم ‏الإداري الذي يرأسه هو.‏

والمدير الناجح يجب ألا يتفرد في صنع القرارات الإدارية وخاصة تلك المتعلقة بالشؤون التطويرية، وألا يستأثر بها ‏ليفرضها على الآخرين عنوة واقتدارا دون تشاور أو استطلاع، إذ أن المؤسسة التعليمية وخاصة في هذا العصر التقني وثورة ‏المعلومات أصبحت فيه من التعقيد بحيث لا يستطيع فرد بعينه أن يقوم باتخاذ جميع القرارات، أو ينفذها وحده دون التعاون ‏مع الآخرين والتشاور، إذ أنه من المعروف أن مشاركة المدير للموظفين في اتخاذ القرارات الإدارية والتطويرية هي من سمات ‏النظام التربوي المتطور الذي تتحول فيه المؤسسة من نظام ” ديكتاتوري” إلى نظام “ديمقراطي” يعمل في الجميع كأسرة واحدة، ‏ويسهم فيه الجميع كجسد واحد، وهذا لا يكون إلا إذا احترم رأي كل فرد، واستفاد من معلومات كل فرد وتخصصه وكفاءاته ‏وخبراته.  ناهيك عما في المشاركة من إلغاء للقرارات الفردية التي تتخذ بطريقة استبدادية تعسفية، واستبدالها بقرارات جماعية ‏ناضجة واعية تخدم مصلحة المؤسسة، وتعمل على تطويرها ورفع سمعتها وإحداث التغيير فيها بالشكل اللائق والصحيح.‏

ولكن، ما الذي على المدير عمله، وماذا عليه تجنبه في أثناء إدارته، حيث الدراسات التربوية في هذا المجال ومن ‏خلال تجارب الإداريين على أرض الواقع، أن تطوير العملية التعليمية يحتاج إلى إدارة ديمقراطية عاقلة واعية بعيدة عن ‏التجسس وشبك الناس بعضهم ببعض وهدم الثقة بينهم، إدارة يشارك فيها كل فرد في المدرسة بصنع القرار وخاصة من قبل ‏المبدعين والمتفوقين، سواء أكان هذا القرار إداريا يتعلق بالجو المادي للمدرسة وما يتطلبه من توفير أدوات ومواد وبنايات ‏ووسائل تعليمية وكوادر بشرية، أو فنيَا يتعلق بتطوير العملية التعليمية والمدرسين وما يتطلبه من مواكبة التطور ومتابعة كل ‏جديد في مجال العلم والمعرفة، والتربية وعلم النفس، وتأهيل المعلمين وتدريبهم في أثناء الخبرة على الأساليب التربوية ‏والتعليمية الحديثة.  لقد رأى هؤلاء اللإداريون التربويون  أن”البيوقراطية” في تسيير أمور المؤسسة كانت من أكبر المعيقات ‏التي تمنع الموظفين من المؤسسة التعليمية في صنع القرار السليم، وأن وضع الحواجز بين المدير الموظفين هي من أكبر ‏الموانع التي تحول دون إحداث التغيير الإيجابي والتطوير ومسايرة روح العصر.  علاوة على أن الديكتاتورية في الإدارة من ‏شأنها أن تقتل انتماء الموظفين لعملهم وطلبتهم والعملية التعليمية بعامة، وتبعدهم عن الشعور بالإلتزام والحس بالمسؤولية، ‏كما تفقدهم الثقة بمديرهم والنظام الإداري بعامة، ومن ثم تعيقهم من القيام بعملهم بالشكل الصحيح.  وهذا كله سوف يؤدي إلى ‏تدهور العملية التعليمية، وانخفاض مستوى أداء المدرسين، وتدني تحصيل الطلبة وتخريج جيل غير مؤهل يفتقد إلى العلم ‏والمعرفة والمهارات.  ناهيك عمّا تفعله البيوقراطية من قتل روح العمل الجماعي والانتماء، واستبداله بروح العمل الفردي ‏التنافسي الهدام المبني على الغيرة والحسد والحقد.  كل هذا سوف يؤثر على بنية المجتمع ونسيجه بحيث يقل معه الوفاء ‏والإخلاص في العمل، ويضعف الاعتداد بالهوية والوطن.‏

تطوير الإدارة المدرسية أمرا ملحا

لقد أصبح تطوير الإدارة المدرسية أمرا ملحا للخروج بالعملية التعليمية من موقع التقليد والقيود إلى موقع الإنفتاح ‏والتنمية والتطوير، وهذا لا يكون إلاعن طريق اتخاذ المدير القرارات التي تعمل على تطوير المدرسة وإحداث التغيير المنشود ‏فيها، وهذا لا يكون إلا عن طريق التغيير الدوري في المدير والموظفين الإداريين واستبدالهم بآخرين كل أربع سنوات على ‏الأقل، وذلك حتى يديروا المؤسسة بعقل جديد، ودم جديد، وهمة جديدة، وخبرات عصرية تواكب روح العصر، إذ أن الإدارة ‏المدرسية تظل هي الجهة المطالبة بتحمل المسؤولية وإحداث التغيير.  ولعل التغيير في المراكز الإدارية وعدم التسمر والجمود ‏لهو الخطوة الأولى التي تساعد على التجديد والتغيير وتطوير العملية التعليمية، فالحياة مستمرة متجددة ولا يمكن لشخص ‏واحد مهما كان يمتلك من الكفاءات والمهارات أن يبقى في مركزه لطول العمر، سيما وأن أحداث الدنيا كثيرة ومفاجئاتها ‏غريبة، وأن الإنسان معرض فيها للمرض والضعف إن لم يكن للموت التي تجبر المسؤولين عندها على التغيير والتبديل ‏وتجعلهم يؤمنوا بأنه لا يمكن لشخص واحد أن يظل في وضعه لأبد الآبدين.‏

‏ ولكن للأسف فإن مثل هذه المفاهيم الإدارية العصرية ما زالت بعيدة كل البعد عن أرض الواقع وخاصة في ‏مؤسسات التعليم في العالم العربي.  وهذا ما بينته معظم الدراسات التي أجريت في هذا المجال، حيث وجدت أن المدير العربي ‏ما زال يمارس الجوانب الإدارية التقليدية المتعلقة بالأمور الكتابية، وإصدار الأوامر والنواهي، وعزل الموظفين من مواقعهم دون ‏سابق إنذار ودون مراعاة لنفسيتهم وروحهم المعنوية، أكثر من ممارسته للجوانب الفنية المتعلقة بالتخطيط والتطوير والتغيير، ‏وما كل ذلك إلا نتيجة لتسمره في مركزه لعقود وسنين، وتمسكه بكرسيه ومركزه حتى الرمق الأخير حتى لو ذهب الجميع إلى ‏الجحيم، مع أننا نؤمن بأن هذا الوضع الشاذ سوف يتغير عاجلا أم آجلا، ولا يصح في النهاية إلا الصحيح ،لأن ضرورات ‏الحياة وتحدياتها سوف تجبرنا على التغيير والتجديد واتباع كل ما هو صواب ومفيد، لمصلحة الوطن والجميع.

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.