كيف تتغلب على القلق ؟

كنت قد نشرت مقالا في جريدة القدس بتاريخ 5/12/2010م عن القلق النفسي وعرفته بأنه الخوف المفرط ‏من موضوع مجهول غير ‏معلوم، وفرقت بينه وبين الخوف الخوف العادي العارض الذي يعاني منه كل الناس ‏عندما يمرون بنفس الظروف، وضربت للقارئ ‏مثل الجندي في ساحة الوغى الذي يخاف من الموت نتيجة سقوط ‏القنابل والقذائف من حوله، ولكنه سرعان ما يعود إلى حالته ‏الطبيعية عندما تنتهي المعركة ويرجع إلى أهله سالما، ‏ليبدأ يعيش حياته بشكل طبيعي. وبالتالي لا يصبح القلق النفسي مرضا إلا ‏عندما يكون الخوف دائما في حياة ‏الشخص لا يعرف له سببا محددا، وعندما يبدأ يؤثر في حياته تأثيرا سلبيا بشكل يعيقه من ممارسة ‏أعماله اليومية، ‏إذ أن مثل هذه المشاعر السلبية الدائمة تتحول مع مع الأيام إلى مرض أو مجموعة من أمراض تسمى بالقلق ‏النفسي.‏

ولكن الله سبحانه وتعالى لم يخلق داء إلا وخلق له دواء ووضع سر معالجته في عقول الأطباء والراسخين ‏في العلم حتى يكونوا هداية ‏للناس، ووسيلة لتبيان الطريق الذي يؤدي إلى شفائهم. ولعل القلق النفسي من الأمراض ‏التي لم يعجز الطب أن يجد لها دواء وطرقا ‏للتغلب عليها، ولعل أهم الطرق التي اتبعها علماء النفس الإكلينيكي في ‏معالجة مثل هذا المرض ما يعرف “بالإقتران الشرطي” أو فك ‏الارتباط السلبي، والذي فيه يقوم الطبيب ـ بعد جلسات ‏من التحليل النفسي وإخراج الخبرات المكبوتة إلى حيز الشعور، وتحديد ‏الموضوع الذي يسبب القلق ـ بربط هذا ‏الموضوع بأشياء تستدعي المسرة والمشاعر الحلوة في نفس المريض بشكل أقوى من ‏المشاعر السلبية الذي يثيرها ‏الموضوع المقلق، ومع تكرار عملية الاقتران بين الموضوع السار والموضوع المقلق فتتغلب المشاعر ‏السارة في ‏النهاية على المشاعر السلبية الذي يسببها الموضوع المزعج؛ مما يقلل من شعوره بالخوف وأثره السلبي في نفسه، ‏ومع ‏مرور الأيام، ومع تكرار الاقترانات بين الموضوعات السارة المحببة إلى النفس والموضوع المزعج، يفقد ‏الموضوع المزعج أهميته ‏ولم يعد بمقدوره أن يحرك مشاعر الخوف السابقة التي كان يحركها، فالشخص الذي يقلق ‏من الوحدة ـ على سبيل المثال ـ نحاول أن ‏نشغل وقته في أشياء يحبها وهوايات يفضلها، ككتابة الرسائل إلى ‏أشخاص يحبهم، أو العمل في الحديقة، أو مساعدة الآخرين، وبهذا ‏تزداد ثقة بنفسه ويملأ وقته في أشياء يحبها؛ مما ‏يبعد عنه مشاعر الخوف والقلق.‏

وثاني الطرق المجدية في التغلب على القلق ما يعرف “بمواجهة الموقف” الذي يخاف منه المريض وجها ‏لوجه وعدم الهروب منه، ‏فالشخص الذي يقلق من الأماكن العالية مثلا، نحمله على الصعود إليها والإكثار من ‏تعريضه لها، فيجد نفسه أمامها وجها لوجه بشكل ‏لا يمكنه التهرب منها. ومع تكرار المحاولة يصبح المريض يألفها ‏ويمارسها ويتدرب عليها، ومن ثم تزول مخاوفه منها أو قلقه ‏اتجاهها، وتزداد قدرته على الصمود أمامها.‏

وهناك طريقة أخرى تسمى “تقليل الحساسية”، وفيها نحاول أن نقرب الموضوع الذي يخاف منه المريض ‏القلق إليه شيئا فشيئا وعلى ‏مراحل، فيتعرف على حقيقته ويدرك أنه ليس هناك سببا يستدعي الخوف منه، فالطفل ‏الذي يخاف من الكلب ـ على سبيل المثال ـ، ‏نبدأ بأن نعرض عليه صورة لكلب، ثم نعرض عليه فيلما لكلب يعيش مع ‏عائلة وأطفال صغار في مثل سنه، ثم نريه كلبا حقيقيا من ‏بعيد، ثم نقربه منه شيئا فشيئا إلى أن يألفه ويزول الخوف ‏الذي كان يثيره في نفسه.‏

وثمة طريقة أخرى للتغلب على القلق تتعلق بتغيير طريقة تفكير المريض اتجاه الموضوع الذي يثير قلقه، ‏وجعله يفكر “بطريقة ‏عقلانية”، كأن يساعد الطبيب النفسي المريض أن يحدد الأشياء الذي يخاف منها، ويخصص ‏الوقت الكافي للتفكير فيها، ثم يبذل الجهد ‏في التعرف عليها وتمحيصها ومواجهتها، ثم يربط بين عوامل قلقه الحالية ‏وخبراته الماضية التي كانت طبيعية اتجاه هذا الموضوع، ‏مما يجعل المريض يقيم موقفه الحالي بسعة بال ورحابة ‏صدر ويفكر بطريقة منطقية عقلانية، ويدرك أن مخاوفه لا أساس لها من ‏الصحة وإنما هي وهم يجب أن يتغلب ‏عليه، وبذلك يزداد قوة على إحداث تغيرات في أساليب تفكيره وطرائق معيشته وأساليب ‏التعامل مع غيره، فالتفكير ‏العقلاني يبدد مشاعر الخوف الوهمية لدى المريض.‏

التفريغ الانفعالي

وهناك طريقة أخرى تعرف بطريقة “التفريغ الانفعالي”، كأن نجعل المريض يتحدث إلى أحد المؤتمنين من ‏أهله أو أصدقائه عن كل ‏ما يجيش في صدره من مخاوف وآلام بحيث لا يتركها حبيسة في نفسه تزعجه وتؤرقه، ‏وإنما يجد لها متنفسا ومخرجا بدلا من تركها ‏مكبوتة في أعماق نفسه.‏

ومن الطرائق الأخرى المجدية في التغلب على القلق، تهيئة الذات للطوارئ والمفاجئات واتخاذ وسائل الأمن ‏والاحتياطات الكافية ‏أمام المخاوف، فالأشخاص الذين يقلقون على ثرواتهم ـ على سبيل المثال ـ يمكنهم التأمين عليها ‏وحفظها في حرز يجنبهم من القلق ‏المستمر من فقدانها. وهناك طرقا أخرى مفثيدة كالانهماك في العمل الدائب، ‏وشغل النفس بما هو مفيد، ووضع أهداف بعيدة الأمد ‏ليسعى إلى تحقيقها، وملئ الفراغ الموحش الذي يثير الشجون ‏والمخاوف بأشياء محببة للنفس. وقد يكون مفيدا أيضا لفت نظر ‏المريض إلى من هم في مثل سنه كأصدقائه ‏وإخوانه وأهله وأقاربه أو من له مكانة في نفسه بأنهم لا يخافون ولا يقلقون، إذ ليس هناك ‏ما يستدعي الخوف؛ مما ‏يشجعه على الاقتداء بهم وتبديد مخاوفه والمضي بنفسه قدما إلى الأمام.‏

وقد يكون من الوسائل أيضا، الإهمال والإنكار وغض الطرف عن الموضوع المقلق وعدم التفكير فيه ‏ونسيانه على أمل أن يمر ‏الأمر بسلام وتعود الأمور إلى مجاريها الطبيعية. كذلك من المهم أن نشجع الفرد القلق ‏الانهماك في الأعمال التي تترك في نفسه ‏شعورا غامرا بالأمن والدعة والاطمئنان فتشعره بالثقة بالنفس والقوة ‏والارتياح والسلام. ولا ننسى أن الاسترخاء العضلي والفكري ‏في أماكن جميلة محببة إلى النفس واستجرار التخيلات ‏الجميلة من شأنها أن تساعد على التغلب على القلق. كما أن وضع الأهداف ‏الطموحة، وإقامة الصداقات المفيدة، ‏والعيش بمشاعر الحب الجميلة، وتقبل الواقع والتكيف معه على أمل أن يحين الوقت المناسب ‏لتغييره، وممارسة ‏التمارين الرياضية في العراء، والإدراك أن الخوف حالة مؤقته سوف تزول مع الأيام، وأن الزمن كفيل بأن يحل ‏أكبر ‏مشكله، كلها أمور تساعد الشخص القلق التغلب على قلقه.‏

والأهم من هذا وذاك، التوجه إلى الله بقلب مخلص، والصلاة إليه، والدعاء، والإكثار من الذكر، وقراءة ‏القرآن، والاستغفار، ‏والتوكل، والإيمان القوي الراسخ بأن الله هو وحده القادر على تفريج الكرب، وإزالة الهم، وتبديل ‏الحال بأحسن حال، وأن يجعل من ‏عسر الإنسان يسرا ومن أمره رشدا. فالإيمان القوي كفيل بأن يزيل أكبر قلق، ‏ويعالج أكبر مرض، وعلينا أن نتذكر أيضا أنه حتى ‏لو اتبع الطبيب النفسي الطرق النفسية في معالجة المريض، ‏فعليه أن يقرنها بضرورة إيمان المريض بالله، وأنه هو وحده الشافي ‏المعافي من أية علة ومن أي مرض، إذ لا شيء ‏يعادل الإيمان الراسخ بالله. ‏

اخلاء مسؤولية! هذا المقال لا يعبر بالضرورة عن رأي جامعة النجاح الوطنية

Facebook Comments
السابق «
التالي »

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.