لا أرى شبها كالشبه الذي أراه بين الذاكرة البشرية والحاسوب، ولا أرى تماثلا أكثر من التماثل الذي يجمع بينهما في الوظائف والعمليات، فكلاهما يقومان بإدخال المعلومات، وكلاهما يقومات بالبرمجة والتنسيق، وكلاهما يقومان بإخراج المعلومات، وكلاهما يحولان المعلومات إلى أشكال وصور وصيغ وخطوط وأصوات وأرقام ورموز، وكلاهما قادران على استرجاع الأحداث بالصوت والصورة والرمز والأرقام إلى غير ذلك من الوظائف. إنهما يتشابهان لدرجة يخالهما المرء صنوين متكافئين. وما استخدامنا للحاسوب إلا لتسهيل أمور حياتنا وتسريع أعمالنا بمهارة وكفاءة، وما استخدامنا للذاكرة إلا لتسهيل حياتنا والمحافظة على نفسيتنا وأرواحنا وأفكارنا سليمة معافاة.
لعل الشبه يزداد بين ما تقوم به الذاكرة وما يقوم به الحاسوب، عندما نواجه مشكلة أو أزمة نفسية، فكما أننا نقوم لدى استخدام الحاسوب بعمليات من القص، والحذف، والبرمجة، والتحديث، والحفظ، وفتح ملفات جديدة، وإلغاء ملفات قديمة ومعلومات تالفة، وإزالة فايروسات وغيرها من العمليات التي تساعدنا على إنجاز العمل على خير ما يرام، كذلك الذاكرة البشرية فهي تقوم بإدخال معلومات، وحذف ملفات، وحفظ ما هو مفيد، والتخلص مما هو غير مفيد، وتصميم برامج جديدة، وتنسيقها ومعالجتها واسترجاعها وغيرها من العمليات التي تساعدها أن تجعل صاحبها يعيش حياة هادئة طبيعية.
ولما كانت منغصات الحياة كثيرة، ولما كانت منغصات البشر أكثر، إما لجهلهم، أو غبائهم، أو حسدهم، أو غيرتهم، أو لئامتهم، أو محدودية عقلهم وثقافتهم وضيق أفقهم، فنحن نحتاج بين الحين والآخر إلى إعادة برمجة لذاكرتنا لكي تظل أفكارنا هادئة غير مشوشة، ونفسيتنا جميلة، ومعنوياتنا عالية، تماما كما هو الحال عندما نحتاج إلى إعادة برمجة حاسوبنا كلما واجهتنا مشكلة تعيق عملية استخدامه.
وقد يتساءل المرء الذي يعاني من التوتر والضيق بسبب حادثة ما أو مشكلة معينة ـ وخاصة ونحن نعيش في عصر يتسم بالسرعة وتفجر المعلومات، ويتسم معه الإنسان بالتوتر والقلق والضيق ومرض الأعصاب ـ ماذا علي أن أعمل؟ وكيف أحمي نفسي من القلق والضياع؟ وكيف أجنبها من الضيق والانزعاج؟ وكيف أتخلص من المشاعر السلبية التي تداهمني بين الحين والآخر؟ وكيف أتعامل مع دماغي وذاكرتي التي هي مصدر معلوماتي وخبراتي ومشاعري وانفعالاتي؟
وأنا بدوري أجيب مجازا، ما عليك عزيزي السائل لكي تحل مشكلتك إلا أن تجلس أمام ذاكرتك وتتعامل معها كما تتعامل مع حاسوبك، فتفتح أبوابها على مصراعيها، وتتعرف على ما بداخلها من معلومات وخبرات وانفعالات ومخزونات، ثم قم بعد ذلك بعملية تصفح، وحذف، وإضافة، ونسخ، وقص، ولصق، وتحديث، وتغميق، وتخطيط، وبرمجة، وإدخال وتنسيق، واسترجاع معلومات لصور ومشاهد وأحداث وانفعالات ورموز وأرقام، وبعدها قم بعملة حفظ، وإزالة فيروسات، وإعادة تشغيل، تماما كما تفعل لدى استخدام الحاسوب. فمثلا عندما تشعر بضيق وقلق دون أن تعرف ما نوعه وما مصدره، افتح ذاكرتك وتصفحها، ثم حدد الملف الذي يسبب لك الضيق والإنزعاج، وقم بحذفه كلية إذا كان عويصا أو موبوءا، أو احذف بعض معلوماته التي تقف وراء ضيقك وانزعاجك إذا كان بسيطا غير معقد، ثم استبدل ما جاء فيه من معلومات سلبية بأخرى إيجابية تنعش روحك، وترفع معنوياتك، وتبث الاتجاهات الإيجابية في نفسك، والذكريات الحلوة الجميلة، والأفكار البناءة المضيئة، إذ أن مثل هذه المعلومات الإيجابية ستساعدك التغلب على مشكلتك، وستخفف من ضيقك وانزعاجك، وستزيل نوعا ما الحدث الذي كان سببا في إزعاجك وتوترك. وقد تقوم بعد ذلك بفتح ملفات سليمة سابقة في ذاكرتك، فتحدد منها الطرائق الناجحة التي كنت تسلكها في علاج مشاكلك وتنتهجها في التخفيف من غضبك وحنقك، أو تقوم بعملية نسخ لهذه المعلومات والذكريات وتلصقها في الملف الذي الذي يسبب إزعاجك، لتحل محل المعلومات السلبية. وقد تجد في الملف السابق ما يسرك ويسعدك فتقوم بعملية تغميق للمعلومات السارة، أو التخطيط تحت الأفكار الإيجابية البناءة، كي تبقيها ماثلة أمام عينك حيَة نشطة في نفسك وروحك وعقلك، فتستمد منها المعنويات العالية، والذكريات الحلوة الجميلة، والمشاعر الطيبة التي قد تنسيك مشاعرك السلبية المؤرقة، فإذا ما انتهيت من هذه العملية، ما عليك إلا أن تقوم بحفظها حتى ترجع لها وتستعين بها كلما دعت الحاجة إليها. وإذا ما استعصى عليك أمر ما في حياتك، فما عليك إلا أن تشغل برنامج إزالة الفايروس ليحدد لك الملف المعطوب وأسبابه، ومن ثم العمل على إزالته أو إصلاحه. وقد تلجأ إلى حذف الملف كلية من ذاكرتك وتضعه في سلة المهملات، وتفتح ملفا آخر جديدا وتطبع فيه المعلومات السارة والأحداث المفرحة التي مررت بها، أو التي تخطط أن تمر بها؛ وذلك لتحل محل المعلومات المزعجة التي تزعجك وتوترك. وهكذا استمر في عملية تصفح ذاكرتك وتقييمها، وشطب ما يزعجك من خبراتها، وإدخال ما يسرك من معلومات وخبرات، وتثبيت ما ينفعك، وقم بالنسخ والقص والتغميق والتخطط للأشياء التي تريدها وتهواها إلخ.. من العمليات كما تفعل تماما في حاسوبك، وذلك حتى تحافظ على المعلومات والأخبار والتجارب المفيدة السارة التي تريد، وتتخلص من المعلومات والأخبار والتجارب المزعجة الضارة التي لا تريد، ومن ثم زرع الاتجاهات الإيجابية والأفكار البناءة في نفسك وعقلك، والتخلص من الاتجاهات السلبية والأفكار الهدامة، وبهذه العمليات، تحافظ على نفسيتك سليمة، وروحك جميلة، وأعصابك مرتاحة، وحياتك سعيدة، خالي من الضيق والتوتر الذي يسببه لك بعض الناس الجهلة، سيئي الأخلاق، ضيقي العقل والتفكير، وخاصة وأنت تعيش في عصر أصبح فيه الكذب مباحا، والنفاق شيمة وأخلاقا، وسوء التصرف والاستغلال شرعة ومنهاجا، والحرية تسيبا وانفلاتا. واعلم عزيزي القارئ أن الذاكرة البشرية بمعلوماتها وتجاربها وخبراتها ما هي إلا حاسوبا ببرامجه ومعلوماته وطرائقه، كلاهما بحاجة إلى غربلة وتقييم، وكلاهما بحاجة إلى شطب وزرع برامج وتحديث، وكلاهما بحاجة لنسخ وقص وزرع وتثبيت، وكلاهما بحاجة إلى صيانة وتجديد، حتى يظلان يعملان بشكل صحيح لا يعيقهما فيروسات إنسان مريض، ولا يؤثر عليهما جو موبوء مريب، ولا يعيق عملهما ملف معطوب رديء. وما الحاسوب في النهاية إلا صناعة من صناعات الإنسان وابتكار من ابتكاراته، اخترعه على شاكلته، ليفكر بتفكيره، ويتخلق بخلقه، ويقوم بعمله، ويسهل عليه حياته! أليس كذلك، حفظك الله!

كاتبة وأديبة، ومحاضرة في قسم أساليب التدريس والدراسات العليا في كلية التربية/ جامعة النجاح الوطنية